كتبت النهار
تشكل الأزمة الرئاسية الحالية في عمقها الدستوري والسياسي والوطني أحد أخطر المفترقات المصيرية في مسألة وحدة لبنان، ليس من منطلق طائفي فقط بل على أساس سيادي أولاً وأخيراً، إذ إن القوى المستهينة مجدداً بتعطيل الانتظام الدستوري كعامل حيوي جوهري لا يجوز مسّه لاستدامة مبدأ وواقع نظام يحمي الوحدة الدستورية للبنانيين تغامر وتقامر الى ذروة الخطورة هذه المرة في تمزيق بقايا الهيكل وتقويضه على ركام الجمهورية. وبـ”العربي” الفصيح ترانا نقف حيارى أمام ذاك المرض المزمن الذي يجعل القوى المرتبطة بالنظامين الإيراني والسوري تمعن في فتح المسارب على الغارب لاستباحة الاستحقاق اللبناني ساحة مقايضات وصفقات لخدمة هذه الارتباطات السافرة رغم إدراك هذه القوى أن ما سيصيب لبنان من جراء الفراغ في زمن الانهيار الذي صنعه عهدها الراحل السابق غير المأسوف على رحيله لن تعوّضه عقود من التعافي إذا قُيّض للبنان التعافي.
ولأن التجارب حفرت عميقاً في واقع اللبنانيين الذين سيغدو معظمهم مهاجرين وفقراء بفضل رزوح لبنان تحت هذا العبث القاتل ترانا نعود الى البداية والنهاية في “دستور” مدوّن وغير مدوّن، وهي معادلة إعادة الصراع الى منطلقه الحقيقي غير الزائف وغير المزيّف وغير المزوّر وهو منطلق الفرز اللبناني العمودي والأفقي حول مسألة السيادة حصراً بلا أيّ شراكة أو تخالط أو تلاعب أو تمويه.
دارت دورة الزمان أكثر من 18 عاماً منذ اندلاع معركة التجديد القسري لإميل لحّود في عام 2004 التي كانت تاريخياً وواقعياً الشرارة الكبرى الأولى الأساسية للثورة السيادية التي تفجّرت عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وها هو لبنان الآن أمام استعادة من باب آخر لمعادلة فرض خيار قسري بقوة التعطيل التي لا تقل خطورة عن أسلوب الترهيب الذي توسّله وفرضه الوصيّ السوري آنذاك. وفي ظل ما يحاك وما يجري الآن من توسّل أساليب انقلابية “بيضاء” عبر كتلة التعطيل النيابية التي ترهن الاستحقاق الرئاسي وتضع لبنان في مهب أشد الأخطار المستعادة قديماً والطارئة حديثاً يبدو ملحاً أن يعاد تلميع توصيف الأزمة بحقيقتها وجوهرها لا بالعناوين الزائفة والمائعة والمزوّرة المتبعة من مختلف الاتجاهات المنخرطة في معركة العقم كأنها محصورة بالبعدين العددي والميثاقي وحدهما.
بلغت المعركة بعد شهر من إجبار لبنان على أيدي قوى الارتباط الإقليمي المتمثلة بسائر أحزاب وكتل وتيارات وشخصيات 8 آذار على الانصياع لتجربة تعطيل الدستور مجدداً الحد الأقصى الذي يجب أن تعلن أنها معركة تحرير فعلية من جانب القوى السيادية سابقاً وحالياً مهما يكن الثمن. ولعل أصدق العناوين إطلاقاً في وضع أزمة الاستحقاق الرئاسي في مكانها الصحيح هو أن تذهب القوى السيادية في اتجاهات حاسمة تعلن فيها أن المواجهة الدستورية هي مع شركاء انقلابيين بكل المعايير والامتناع عن تقديم الهدايا والفرص والخدمات الطوعية لهؤلاء الشركاء ما داموا يعطلون الدستور والى أن يغدو وصل الجلسات الانتخابية بلا انقطاع واقعاً مفروضاً عليهم تحت معادلة “تعطيل بتعطيل”.
الفراغ قاتل للجميع ولكن الرضوخ لعامل الابتزاز بات عنوان استسلام للاحتلال. ولذا لا نجد أفضل وأشجع من مبادرة “المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني” و”لقاء سيدة الجبل” للعودة الى أصول الصراع بمانفيستو المبادئ الأساسية لمواجهة هذا الاحتلال المقنّع وتسمية الأزمة بأسمائها الحقيقية غير الزائفة. وأي احتلال أسوأ من أن يوهموا الناس بأننا أمام معركة ديموقراطية فيما يجري الحفر عميقاً لتحويل لبنان جمهورية ملحقة نهائياً بنظامي الملالي والبعث؟!