افتتاحية صحيفة النهار
بمعايير الانتظام القانوني والأسس التي تحكم الحدود الدنيا من بقاء صورة الدولة والسلطة عموماً، لا يقلّ التصعيد الحاصل في النزاع بين المصارف والقاضية غادة عون عن كونه آخر زفرات الاحتضار للدولة والقضاء والمصارف والسلطة سواء بسواء. يكفي أن تظهر صورة النزاع كأنها حُصرت بين مجمل المصارف ومن خلفها مجمل المواقع السياسية الرسمية وفي مقدّمها رئيس الحكومة من جهة وجهة قضائية واحدة بل قاضية بعينها فقط وكأن كل القضاء بسلطاته وهيكله ونظامه غير معنيّ لكي نقول على دولة لبنان السلام الآن.
والحال أن ما صارت عليه صورة الاشتباك القضائي – المصرفي عقب التدمير الذي أنهى صدقية القضاء في ملف انفجار مرفأ بيروت قبل أسابيع قليلة قد يشكل واقعياً التطوّر الأشد خطورة في تعميم صورة نهايات الدولة “القبلية” التي تتطاحن فيها السلطات ومواقع النفوذ وتتداخل الصلاحيات في عشوائية شمولية لم تعرفها حتى الدول التي تشهد في الظروف الحالية نماذج طاحنة من الحروب الخارجية والداخلية والنزاعات الأهلية في المنطقة من مثل اليمن والعراق وسوريا وحتى أفغانستان. هذه النماذج الانهيارية المتخلفة من الدول تحت وطأة الحروب والغزوات لها خصائص ما كان ممكناً للبنانيين أن يظنوا يوماً أن دولتهم وواقعهم بكل التجارب المريرة التي عرفوها ستضعهم يوماً في مقاربات ومقارنات شبيهة لها بل تتجاوزها سوءاً في الكثير من جوانبها.
انزلقت التجربة الانهيارية بلبنان الى حدود التفكك الشامل في هيكليات السلطة والدولة بما لم يحصل إبان أعتى مراحل الاحتراب الأهلي والانقسامات الطائفية والغزوات الاحتلالية. خلال العقد ونصف العقد من عمر الحرب اللبنانية في القرن الماضي “تفنّنت” بقايا صورة السلطة من رئاسات الجمهورية الى الحكومات المتعاقبة الى البرلمان الممدّد له طوال سنوات الحرب في ابتداع شعرة معاوية واهية وضعيفة كانت كافية لإبقاء مجرد هيكل لم يتفتّت نهائياً في تعامل العالم مع لبنان الحرب. تثبت ذلك الوقائع الدراماتيكية في مفاوضات الوفود والزوار الأجانب والمذكرات التي وضعها عشرات اللاعبين اللبنانيين والعرب والأجانب عن تلك الحقبة الحربية. وفي تلك الحقبة أيضاً لم يبلغ الانهيار المالي في سعر الليرة اللبنانية المدى الساحق القاتل الذي بلغته راهناً ولا خاف اللبنانيون يوماً، (وهنا الدراما المفزعة)، على ودائعهم في المصارف التي ظلت عنوان الصمود اللبناني المذهل وأسطورة النظم المصرفية المتينة والضامنة في العالم لحقوق المودعين والسرّية المصرفية.