كتبت النهار
لم يعد غريباً أن تشغل حالة اللبنانيين تحت وطأة حرب التهويل والتهديد بالحرب الساحقة الماحقة أصحاب التحليلات والتنظيرات والتفسيرات الطائرة، “على الطالع والنازل”، في صدد شعب (ولا ندري كم يُسمح لنا بعد بهذه الصفة الجامعة للبنانيين) أدمن العيش والتكيّف وصرف الأعمار وسط الأزمات والحروب. استحضر “الخبراء” المعنيون في علم الاجتماع والنفس فضلاً عن كل هواة الفصاحة وأدعياء المعرفة بطبائع الشعوب والأقوام والملل والنحل للخوض في ما اعتبر ظاهرة “الإنكار” أو “الازدواجية” أو أي مسمّى آخر ينطبق على لبنانيين يعيشون حياتهم وينصرفون الى فسحة الصيف كأن لا حرب دائرة في جنوب البلاد ولا تهديدات بحرب واسعة تجتاح لبنان ومناطقه كافة وكأن لبنان ليس في جغرافيته اللعينة بل يلهو عابثاً في جغرافيا اسكندنافية!
الحال أننا “نتجرأ” على الفرح بنقطة ضوء واحدة في عتمة استعادة لبنان قسراً، وبالإكراه المتعمّد المقصود، الى تشريعه ساحة استباحة لحروب الحلفاء والأعداء وما بينهما، هي إظهار اللبنانيين أينما كانوا، بغالبيتهم الساحقة الثابتة، القدرة الاستثنائية الفائقة التصوّر على “الاستقواء على المستقوين” والمناعة الفائقة على مقاومة التخويف بما تثبته يوميات الأيام الراهنة. هذا الجانب في المشهد اللبناني بعد ثمانية أشهر من حرب لا تزال ضمن خطوط مضبوطة وتتهدّد في أيّ لحظة بالانتشار الكارثي، ليس مسألة عابرة ونافلة، وليس وليد ساعته بطبيعة الحال ولو استحقّ التمعّن فيه في هذه التجربة أكثر من السوابق. في سجلّ السوابق تلك، ثمّة ما هو أشدّ التماعاً في تاريخ اللبنانيين خلال حقبات الحرب والاحتلالات والاجتياحات والوصايات بحيث صار سلوك الفرد اللبناني نموذجاً عالمياً حقيقياً في فنّ التكيّف مع الحروب والبقاء ولو ضمن موجات جماعية متواترة للهجرات والتهجير والانتقال الديموغرافي داخل البلاد والى سائر أنحاء الانتشار اللبناني في العالم.
حمل اللبنانيون المهاجرون والهاربون أيضاً معهم الى أنحاء انتشارهم طرائق وسلوكيات التكيّف الأقصى بحيث صارت مرونة التكيّف مع المجتمعات المضيفة للمهاجرين اللبنانيين السمة الغالبة عليهم وسبباً رئيسياً حاسماً في نجاحات وتفوّق ألوف مؤلفة من الأفراد والجماعات بسبب البراعة في إتقان خصائص المجتمعات المضيفة وخصوصاً في بلدان الانتشار الكبرى.
تبعاً لذلك، ولبنان الآن عند المفترق المفصلي الذي يضعه أمام قدر قسري ظالم وظلامي أعاده الى احتمال الحرب المخيفة أو النفاد والتخلص من خطرها في نهاية المطاف، ترانا نُذهل أمام من يطلع على اللبنانيين من الفريق المتباهي باستدراج الحرب الى لبنان، بنبرة تقريع الناس ولومهم والسخرية منهم لأنهم هواة حياة امتلكوا المناعة القصوى، وحتى مستويات أكثر من واقعية، على أنماط التخويف والتهويل والتعبئة والاستنفارات من أيّ جهة أتت، داخلية أو خارجية، من أهل البيت الداخلي أو من العدوّ الخارجي.
غالباً ما كان هذا الانفصام الداخلي وخصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة، علامة الانقسام الأخطر بين “حزب الله” ومعظم الفئات اللبنانية الأخرى التي لا تملك سوى التعبير عن رفضها الحاسم لتسخير لبنان ساحة حربية جاهزة لأجندة الحزب وحلفائه الإقليميين بأساليب متعدّدة من وجوه الرفض “المدني”. وأسوأ الأسوأ في التنكر لهذا الانقسام الخطير أن يواجه كل معترض ومخالف بالنعت الشائن كـ”خائن” وتستباح وسائل التواصل الاجتماعي لتهديده بالموت الزؤام، على نحو ما يحصل وحصل في الأيام الاخيرة مع صحافيين وإعلاميين ونوّاب.. هذه معضلة وطنية وجودية ولم تعد مجرد عارض عابر!