محمد وهبة – الأخبار
يعلن النائب الأول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري، اليوم، استعداده لتولي مهمة الحاكم بعد انتهاء ولاية رياض سلامة، وفي انتظار تعيين حاكم جديد، وفقاً لما تنص عليه المادة 27 من قانون النقد والتسليف. ويستند منصوري في قراره عدم الاستقالة، إلى اتفاق مع أركان الحكم، يقضي بتوفير تغطية تشريعية للإنفاق من الاحتياطي الإلزامي بالعملة الأجنبية ضمن سقف لا يتجاوز 200 مليون دولار شهرياً، وإقرار الحكومة ومجلس النواب مجموعة قوانين يطلبها صندوق النقد الدولي في إطار الشروط المسبقة للاتفاق النهائي معه.
البند الأول الخاص بتشريع الإنفاق من الاحتياطي، كان محور النقاش الجدّي الذي جرى في الأسبوعين الماضيين بين نواب الحاكم الأربعة ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، أما البند الثاني الخاص بالقوانين الإصلاحية، فقد تمّت مقاربته على شكل وعود حصراً. أي أنه تجوز الخشية من أن يكون هدف الاتفاق إطالة مرحلة «الترقيع» و«ترتيب الانتظار».
كان منصوري يقول دوماً إنه لن ينفق دولاراً واحداً من الاحتياطي الإلزامي بالدولار إلا بقانون. وقد تكرّر الأمر في الاجتماعات التي عقدها مع ميقاتي، وهو ما قاله أيضاً أمام النواب في اجتماعَي لجنة الإدارة والعدل. وموقفه هذا كان يمثله والنواب الثلاثة الآخرين: بشير يقظان، سليم شاهين وألكسندر مراديان.
واضح أن منصوري تمايز في الموقف السياسي، إذ كان يرغب في الاستقالة الشكلية فقط وتسيير المرفق العام، بينما كان رئيس مجلس النواب نبيه برّي يحثّه على الاستقالة والخروج من مصرف لبنان نهائياً «حتى لا يتم تحميل الشيعة مسؤولية الانهيار». ورغم تكتّلهم، إلا أن تمايز منصوري انسحب أيضاً على علاقته مع نواب الحاكم الثلاثة، إذ كان يقظان متردّداً ومتقلباً تجاه الاستقالة، بينما حسم شاهين أمره منذ البداية بالاستمرار، أما مراديان فقد طلب حزب الطاشناق منه الاستمرار. حصل كل ذلك، فيما كان ميقاتي وبري يرغبان في تعيين حاكم جديد، لكنهما اصطدما برفض التيار الوطني الحر وحزب الله وتيار المردة.
وسط تشابك المصالح وتنافرها، فشل التعيين، وانتهت المفاوضات بين ميقاتي ومنصوري إلى اتفاق على التغطية التشريعية للإنفاق من الاحتياطي الإلزامي. وينقل مقرّبون من منصوري أنه أبلغ الجميع: «لن أنفق دولاراً واحداً من الاحتياطي إلا بتغطية. وقد لمست إيجابية من الكتل النيابية. أما السقف المتفق عليه مع الرئيس ميقاتي فهو 200 مليون دولار ضمن مدى قصير لا يتجاوز ستة أشهر، على أن تحدّد الحكومة حاجتها وتطلب من مجلس النواب إجازة تشريعية للاقتراض بالدولار من الاحتياطي. بعد ذلك، يجب أن تصدر القوانين الأخرى، مثل الكابيتال كونترول، إعادة هيكلة القطاع المصرفي… عندها قد يكون مناسباً إنفاق دولارات إضافية».
هل تبقى التعاميم التنظيمية التي أُقرّت في عهد سلامة مثل 151 و154 و158 على حالها؟
في المحصّلة، سيحضر منصوري مراسم التسليم والتسلّم، وسيمارس مهام الحاكمية ابتداءً من صباح غد. وستنتقل إلى يديه من رياض سلامة، أزمة تراكمت على مدى 30 سنة، وفيها خسائر بقيمة 72 مليار دولار، وتعدّدية في أسعار الصرف، واستقرار هشّ مموّل بدولارات قابلة للنفاد سريعاً. كما سيتسلّم نظاماً لضخّ السيولة وتجفيفها ويُستعمل أيضاً لدعم العملة اسمه «صيرفة». يقوم هذا النظام على التوزيع المجاني للدولارات سواء عبر استخدام الاحتياطي، أو من خلال شراء الدولارات من السوق ثم ضخّها مجدداً. وكان يجري توزيع الدولارات على ثلاث فئات: الأثرياء الذين لديهم كميات من الدولارات تتيح لهم المشاركة بنصيب وافر في عمليات صيرفة، الأزلام والمحاسيب الذين تختارهم قوى السلطة بالشراكة مع المصارف وكبار المديرين فيها وسواهم من المضاربين، وموظفو القطاع العام.
على أن الأسئلة التي أثيرت حول استمرارية منصوري ورفاقه الثلاثة في الحاكمية، بقيت ذات مدى قصير، إذ إن تغيير آليات العمل التي تحكم منصّة «صيرفة» ليس سوى المسألة التي تتعلق بـ«الترقيع» وترتيب فترة «الانتظار». أما المسألة الأساسية التي يجب أن تثار، فتتعلق بالتعاميم التنظيمية التي أُقرّت في عهد سلامة، مثل الـ 151 والـ 154 والـ 158… إذ لا يجب حصر الأمر بـ«صيرفة» ودفع رواتب العاملين في القطاع العام وما يتصل بتسيير المرفق العام، بل يجب العودة إلى محور توزيع الخسائر والنهوض. فهل كان يجب أن يدفع المقيمون في لبنان تضخماً في الأسعار بنحو 42 ضعفاً منذ مطلع عام 2019 حتى حزيران 2023، ليتم إعفاء المصارف من مسؤولياتها تجاه الودائع؟ هل كان يجب أن يضخّ رياض سلامة 75 تريليون ليرة في السوق ويشرّع تعدّدية أسعار الصرف في سياق فرض «هيركات» مقنّع؟
بمعزل عن قرارات السلطة وامتناعها عن إقرار قوانين واتخاذ إجراءات، فإن المطلوب من منصوري وشاهين ويقظان ومراديان، اتخاذ قرارات تحمي البلاد من تضخّم إضافي، ومن التوزيع غير العادل للخسائر، وإجبار السلطة على مصارحة المودعين بأن كل الطرق للحصول على ودائعهم يجب أن تمرّ بالاقتطاع من الودائع. واليوم، يتم الاقتطاع بطريقة مقنعة، إذ يحصل المودعون على 15% من ودائعهم بالحدّ الأقصى، وهذا يأتي مع تضخّم مستمرّ، ومع إنفاق متواصل للدولارات التي يملكها مصرف لبنان، ومع استنزاف للدولارات الواردة إلى السوق والتي تُضخّ حصراً لدعم العملة وتمويل الاستيراد. بأي أموال سيتم الاستثمار في الاقتصاد بعد ذلك؟
«صيرفة»: أين رجالها وما هو مصيرها؟
قبل نحو عشرة أيام، راج أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قرّر السير باقتراح نواب الحاكم بوقف العمل بمنصة «صيرفة». سريعاً تبيّن أن سلامة أبلغ كل المتعاطين بالمنصة من سماسرة ومصرفيين بأنه قرّر وقف شراء الليرات. وترافق ذلك مع ضجة حول مصير سعر العملة ربطاً بما يمكن أن يحصل على صعيد حاكمية مصرف لبنان.
ما حصل عملياً هو التوقف عن تلقّي الإيداعات من العملاء، أي أن ضخّ الليرات والدولارات توقّف. وبقي مصرف لبنان، يصرف الدولارات لتغطية لوائح إيداعات سابقة على قراره، ما انعكس تراجعاً تدريجياً في أرقام التعامل عبر منصة «صيرفة» إلى نحو ثلث ما كانت عليه، من دون أن يمس سلامة بسعر الدولار على المنصة ذاتها. وترافقت الخطوة مع أنباء عن اختفاء سماسرة كبار كان سلامة يعتمد عليهم في إدارة العملية خارج مصرف لبنان، وأبرزهم سليم الخليل الذي كان يعمل عبر مصرف «الاعتماد المصرفي»، وتردّد أنه غادر لبنان. كما اختفى من السوق عدد آخر من المضاربين ويجري التدقيق في ما إذا كانوا قد غادروا البلاد فعلاً. ويفسر البعض الأمر بأن الإدارة الجديدة لمصرف لبنان ستكون خلال فترة قصيرة على اطّلاع تفصيلي على كل العمليات التي جرت على المنصة، وبالتالي سيكون من الممكن تحديد المؤسسات أو الاشخاص الذين استفادوا من المنصة، خصوصاً من العمولة التي كانت تُدفع من أطراف المبادلات.
ولن يعلن النائب الأول للحاكم وسيم منصوري اليوم دفن منصة «صيرفة» وإطلاق منصّة جديدة، رغم أن العمل جارٍ بين نواب الحاكم الأربعة على إطلاق منصّة جديدة تقوم على حرية التبادل وشفافيته في السوق، من خلال وكالتي «بلومبيرغ» و«رويترز»، وهو أمر بات قابلاً للتطبيق. لكنّ منصوري لديه مخاوف من التلاعب بالسوق، إذ إن سعر الصرف الآن يسجّل انخفاضاً لأن مصرف لبنان استمرّ بضخّ الدولارات عبر منصة «صيرفة».
يشار هنا إلى أنه خلال الاجتماعات التي عقدها نواب الحاكم مع عدد من النواب المعارضين لسياسات سلامة، سمعوا طلبات بأن يكونوا حذرين عند عملية التسلّم والتسليم. ويجري الحديث عن أن الفريق الجديد قد يوقّع إشعار الاستلام من سلامة، مع إيراد عبارة «مع التحفظ لحين إجراء عملية تدقيق داخلية في مصرف لبنان»، إذ يُتوقع أن تفتح عمليات التدقيق الأبواب على أمور كثيرة في ما كان سلامة يقوم به مع العاملين معه، سواء داخل المصرف أو خارجه طوال السنوات الأربع الماضية.
أما بالنسبة إلى سعر الصرف، فقد أوجد انخفاضه خلال اليومين الماضيين مساراً، لم تتضح بعد إمكانية استدامته، وهو ما يدفع اللاعبين في السوق إلى الاحتفاظ بالليرات الموجودة لديهم، لاعتقادهم بأن سعر الليرة سيكون أعلى في الأيام المقبلة. وبمعزل عن التفسيرات التقنية، من اللافت أن السوق لم تشهد انعكاساً للفوضى السياسية التي رافقت مشروع التمديد لسلامة أو استقالة نوابه الأربعة، ويبدو أنها لا توجد أي مصلحة للقوى السياسية في انفلات سعر الصرف وسط هذه الظروف.