مسح موقع استهداف العاروري قبل أسبوعين من الاغتيال
محض صدفة أدت إلى كشف واحدة من أخطر شبكات التجسّس لمصلحة العدو الإسرائيلي. أواخر كانون الأول الماضي، ارتاب عناصر من سرية حرس رئيس مجلس النواب بسيارة كانت تجوب محيط مقر رئيس المجلس في عين التينة في بيروت. بعد توقيف السيارة وسائقها محي الدين ح,، عُثر في حوزته على جهاز إلكتروني «شديد التطوّر» وعلى هواتف تضمّنت عشرات الفيديوات بما يشبه مسحاً شاملاً للمنطقة. سُلّم الموقوف إلى فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي ليبدأ تحقيقات كشفت عن “اشتباه بالتعامل مع العدو” بطريقة تقنية غير مسبوقة لجهة خطورتها. ولعلّ حصول المدّعى عليه على 200 ألف دولار لقاء هذه المهمة، وهو مبلغ غير مسبوق أيضا في ملفات العمالة للعدو، أبرز مؤشر على خطورة ما قام به. إذ زوّد، مع المدّعى عليه الآخر هادي ع.، وهما خبيران في هندسة الكمبيوتر والاتصالات، شركة أميركية وهمية، هي على الأغلب واجهة للاستخبارات الإسرائيلية بمسح شامل لعدد كبير من المناطق، بما فيها بيروت والضاحية الجنوبية، يكمل على الأرض المسح الذي تجريه طائرات العدو يومياً لمختلف المناطق. عملياً، زوّد الموقوفان العدو بـ«نسخة طبق الأصل» عن هذه المناطق، بما فيها الشوارع والمباني وأسماء المحال والسيارات المركونة والمتنقّلة وأرقام لوحاتها ووجوه المارة (عُثر في هاتف محي الدين ح. على 56 ألف صورة عالية الجودة).الأكثر خطورة هو التجسّس التقني الذي قام به الموقوفان، مستخدمين معدات شديدة التطور، مزوّدة بنظام مسح التردّدات اللاسلكية المتعلّقة بمزوّدي خدمات الإنترنت وعناوين نقاط الوصول access points الموجودة في المنازل والمؤسسات والأماكن العامة، بما يسهّل تحديد الموقع الجغرافي للمستخدم. بمعنى آخر، حصل الموقوفان على اسم كل جهاز “واي فاي” في المناطق التي تم مسحها، وعلى كلمة السر، بما يمكّن من تحديد موقع أي مستخدم لهاتف خلوي بمجرد أن يصبح هاتفه على صلة بمزود خدمة الانترنت. علماً أن العدو، في الحرب الجارية حالياً، استخدم هذه التقنية لتحديد أمكنة مقاومين بمجرّد شبك هواتفهم على شبكة “الواي فاي”. أضف إلى ذلك أن التحقيقات أظهرت أن أحد الموقوفين نفّذ عملية مسحٍ في شارع بمنطقة الضاحية الجنوبية، وفي مقابل الشقة التي اغتيل فيها نائب رئيس حركة حماس الشيخ صالح العاروري في الثاني من كانون الثاني الماضي، وقد جرى المسح قبل نحو أسبوعين من عملية الاغتيال. ورغم أنّ الموقوفين نفيا أمام قاضي التحقيق علمهما المسبق بأن تكون الشركة التي كلفتهما بالعمل إسرائيلية، إلا أنهما أقرّا بأنّ ما طُلب منهما لا علاقة له بالعقد الذي أُبرم مع الشركة للعمل على مشروع لتطوير السياحة الافتراضية، وأقرّا بأن البيانات والمعلومات التي زوّدا الشركة بها ذات طبيعة حساسة، وقال أحدهما إن ما طلب منهما لا يمكن إلا أن يكون لمصلحة جهاز استخباري، وأن البيانات التي زوّدا الشركة الأميركية المزعومة بها تمكّن من إنشاء «منظومة مراقبة أمنية» في كل المناطق، وتجعل من يمتلكها قادراً على تحديد موقع من يشاء في أي وقت. وقد أحيل الموقوفان أمام قاضي التحقيق العسكري الأول فادي صوان الذي استجوبهما وأصدر مذكرتي توقيف وجاهيتين بحقهما، علماً أن مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي، كان قد ادعى عليهما بـ«ارتكاب جرائم التجسّس لمصلحة دولة أجنبية والحصول على معلومات يجب أن تبقى مكتومة حرصاً على سلامة الدولة، والمس بالأمن القومي للوطن، والتي تصل عقوبته إلى الأشغال الشاقة المؤبدة». وفي ما يأتي ملخص عن التحقيقات معهما أمام فرع المعلومات.
محي الدين ح. : كنت في حاجة إلى المال!
مطلع عام 2011، بدأ محي الدين ح. (مواليد 1983)، الذي درس هندسة الكومبيوتر والاتصالات في الجامعة اللبنانية الأميركية، العمل شريكاً إدارياً (Managing Partner) في شركة «أكورن» للاتصالات (Akorn telecommunications) التي تملّك والده 99,5% من أسهمها. وتعمل الشركة في تجهيز مواقع محطات الإرسال، وتركيب البنية التحتية لأبراج الاتصالات، وتركيب أجهزة الاتصالات وصيانة المحطات وتحسين الشبكات، وإجراء اختبارات لها وتأمين الموارد البشرية والاستشارية لكل الشركات المورّدة لأجهزة الاتصالات في لبنان وخارجه. وبين عامَي 2011 و2019 تعهّدت الشركة أعمالاً لمصلحة شركتي Alfa و Touch ولشركات «إريكسون» و«هواوي» و«نوكيا» وZTE. وأسّس عام 2021 شركة Meta المتخصّصة في مجال المحافظ الإلكترونية، بالشراكة مع شركة MH CASA الإسبانية المتخصّصة في المجال نفسه.
شركة Monolith الوهمية
أظهرت التحقيقات أنّ الشركة الأميركية المزعومة شحنت المعدات المتطورة التي استخدمت في عمليات المسح في طرود بريدية عبر شركة DHL، من ولاية تكساس الأميركية إلى لبنان باسم محيي الدين ح. وتبيّن أنه لا وجود لشركة Monolith على العنوان الذي زوّد به المدعى عليه، وأن العنوان الذي أرسل منه المدير التنفيذي للشركة جون تايلر الطرود البريدية عائد إلى منزل وليس شركة. ولم يظهر البحث على مواقع التواصل الاجتماعي ومصادر الإنترنت المفتوحة وجود رقم هاتف للشركة، أو أي معلومات عن تايلر وعن أي علاقة له مع أي شركة.
عام 2021، تعرّف الدعى عليه عبر علاقاته مع شركة ATEC Wireless، إلى جون تايلر، المدير التنفيذي لشركة أميركية تسمّى Monolith، وإلى مدير المشاريع فيها دايفيد مايرز. وادّعى هذان أن شركتهما تعمل في مجال تطوير خرائط الملاحة والـ Digital mapping وإنشاء المدن الذكية والسياحة الافتراضية التي توفّر استكشاف المواقع السياحية والأثرية والثقافية لأي بلد من دون الحاجة إلى زيارته فعلياً، وذلك عبر وسائل رقمية وتكنولوجيا الواقع الافتراضي، عبر استخدام تقنيات التصوير الثلاثي الأبعاد، ومقاطع الفيديو الواقعية، والمحتوى التفاعلي الذي يتيح للمستخدمين التفاعل مع البيئة والمعالم السياحية.
عرض مديرا Monolith على محي الدين ح. أن تنجز شركته مشاريع لمصلحة شركتهما تتعلق بتحديث الخرائط في سريلانكا ولاوس وتركيا ومصر وغينيا… ولبنان. وبالفعل، بدأت Akorn العمل على هذه المشاريع عام 2021، وتولت الشركة الأميركية تزويد الشركة اللبنانية بمعدات إلكترونية متطورة وأجهزة هواتف خلوية وكاميرات حديثة لإجراء مسح شامل للشوارع وشبكات الاتصال الخلوية واللاسلكية ومحطات توزيع خدمة الإنترنت. وبين عامي 2021 و2023، عمل المدعى عليه على تنفيذ مشروع تحديث الخرائط لمصلحة الشركة الأميركية في كل من مصر بالتعاون مع أحمد خورشيد وابنه عبد الرحمن وشخص ثالث يدعى أسامة وهبي يعمل في شركة T-telecom المصرية، وفي تركيا مع شخص يدعى حسين ياناز (تركي)، وفي لاوس مع شخص فرنسي يدعى ماثيو، وفي سريلانكا مع شخص يدعى كيشيري kishsiri (سريلانكي)، وفي غينيا مع شخص سوري يدعى أحمد. وفي لبنان، تواصل مع هادي ع.، وهو متخصّص في الاتصالات وتركيب الكاميرات، عمل في شركة Akorn، بين عامي 2015 و 2019، وكان ضمن فريق يعمل على إنجاز مشاريع تلتزمها الشركة.
وأقرّ محي الدين ح. أمام المحققين بأنّ عمليات المسح الشامل التي قام بتنفيذها لمصلحة الشركة الأميركية بين عامَي 2021 و2023، تتطلّب الحصول على تراخيص، إلا أنّه باشر بالأمر من دون التراخيص المطلوبة، زاعماً أن شركته كانت تمرّ بأزمة مالية، وأنه كان في حاجة إلى التزام المشروع لزيادة إيراداته. وزعم بأنه ليس على علم بكيفية استثمار الشركة الأميركية للمعلومات والبيانات والصور التي زوّدها بها، بذريعة أنّ العقد الموقع بينه وبينها لا يتضمن أي بند يلزمها بإعلامه بذلك، ولا يعطيه حقاً بالاعتراض على كيفية تصرّف الشركة بها.
واعترف بأنّ الإحداثيات والتفاصيل التقنية لشبكات الاتصال الدولية والموزّعة لخدمة الإنترنت، والصور العالية الجودة التي جمعها لشوارع بيروت والضاحية الجنوبية ومناطق المتن وكسروان وجبيل، تعدّ عملاً أمنياً كونها تُظهر تفاصيل لا يمكن الحصول عليها عبر تطبيقات متاحة للعموم، وتتطلّب أجهزة إلكترونية وتطبيقات وبرامج خاصة. وقال إنّه يدرك بأن بيروت والضاحية الجنوبية تعدّان منطقتين أمنيتين، ولا يمكن إجراء مسح كهذا فيهما، واعترف بأنّه لدى عرضه الأمر على هادي ع.، نبّهه الأخير إلى وجود شبهة أمنية في المسح والتصوير في بيروت والضاحية، إلا أنّه أكّد لهادي ع. أنّه لدى مواجهة أي مشكلات سيبرز التراخيص اللازمة للأجهزة الأمنية. وأكّد أنه ألحّ عليه لإجراء مسح للضاحية مع علمه بحساسية هذه المنطقة تحديداً. كذلك أقرّ بعلمه مسبقاً بأن المعلومات والبيانات والصور التي أرسلها إلى الشركة الأميركية ذات طبيعة حساسة، وأن عملية المسح التي أجراها لا علاقة لها بالمعالم والمباني المصنفة سياحية أو تراثية أو أثرية، وأن العمل على مشروع لتطوير السياحة الافتراضية لا يستوجب الاستحصال على المعلومات المتعلّقة بشبكات الاتصالات الخلوية واللاسلكية وشبكات الإنترنت، كما أن تصوير الشوارع بتقنية ثلاثية الأبعاد من صلاحية الأجهزة الرسمية حصراً. وأقرّ كذلك بأنّ المعلومات التي يجمعها لا علاقة لها بتطوير «خرائط الملاحة» كما زعم بداية. وقال إنّ مجموع المبالغ المالية التي تقاضاها من الشركة الأميركية، منذ عام 2021 وحتى كانون الأول 2023، بلغ نحو 200 ألف دولار.
هادي ع. : نفّذت مهمة لا تطلبها إلا جهات استخباراتية معادية
وبيّن التحقيق مع هادي ع. (مواليد 1981)، الذي أوقف في 1 كانون الثاني 2024، أنه عمل مع محي الدين ح. بين تشرين الثاني وكانون الأول 2021، وتشرين الثاني وكانون الأول 2022، وأفاد أنه قام بمفرده، مستخدماً المعدات نفسها، بمسح الخط الساحلي من جل الديب، الضبية، جونية، الصفرا، البوار، نهر إبراهيم، جبيل، عمشيت، حالات… ذهاباً وإياباً، إضافة إلى مناطق برمانا، الفنار، المنصورية، الدكوانة برج حمود، بيت مري، بعبدات، الزلقا، انطلياس، بيت الشعار، مزرعة يشوع، ديك المحدي، بكفيا، أدما، عجلتون بلونة، سهيلة، جعيتا، زوق مصبح، زوق مكايل، غادير، حاريصا، درعون، غوسطا، كفرحزير، فتقا، غدراس، الكفور، المعيصرة، يحشوش