عادت المصارف كما كانت في سابق عهدها. قوةٌ «لا ترمش» بل يمكنها وببساطة أن تهدّد القضاء والقوى السياسية، ثم تنفّذ تهديدها بأريحيّة مطلقة. على الطاولة، تبدو أنها أقوى من الجميع. لا إفلاس يهزّها، ولا مفاوضات مع صندوق النقد الدولي ولا حتى المحاسبة القضائية. إذاً، قضمت المصارف ببطء، وتمكّنت من استعادة مكامن قوتها. وهي اليوم تنفّذ إضرابها، من دون أن تتجرأ السلطة السياسية على أن تقف لها بالمرصاد
الخنوع، صفةٌ تلخّص علاقة السلطة السياسية بالمصارف. هي ليست علاقة القوي بالضعيف، وإلا لكانت المصارف اليوم تُعاني من فوقية القوى السياسية بعد إفلاسها، وإنما هي علاقةٌ متداخلة بقدرة المصارف على التأثير وامتلاكها «لوبي» داخل مراكز القرار السياسي يُنفّذ أجندتها بإخلاص. هذا ما حدث فعلياً عندما تجرّأ القضاء على توقيف رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد المصرفي طارق خليفة لأنه متّهم بالاختلاس وفارّ من وجه العدالة. القوى السياسية لم تنتظر حتّى تنفّذ المصارف تهديدها بالإضراب، بل أخرجت خليفة مثل «الشعرة من العجينة» قبل أن يأتي يوم «حشر» الدولة والناس بتنفيذ الإضراب. وأكثر من ذلك، لقّنت القضاء درساً: مساءلة المصارف ممنوعة تحت طائلة المسؤولية. كانت بحاجة إلى إعادة فرض سطوتها على الجميع، للقول: «ما حدا أكبر مني».
لوبي الحلقة المالية
إذاً، التقطت المصارف أنفاسها، واسترجعت النفوذ الذي كانت تمتلكه قبل 17 تشرين 2019. حينها، كانت تفرض الفوائد وتكسب «من عرق» الهندسات المالية وتوزّع على السياسيين حصّتهم من التوظيفات والفساد. لكن بعد 17 تشرين، خسرت «السلطة المالية» مكامن قوتها. وصار بإمكان أصغر مودع أن «يستوطي حيطها» بتكسير الواجهات وماكينات «ATM»، تماماً كبثّ الإشكالات اليومية مع مديري المصارف على مواقع التواصل الاجتماعي. تحوّلت المصارف حينها إلى «مكسر عصا» من دون أن تنبس ببنت شفة. وهذا ما دفعها إلى التفاوض «من تحت» على طاولة الرئيس حسّان دياب قبيل التفاوض مع صندوق النقد الدولي. في حينه، كانت المصارف تفاوض على تفاصيل ما سينالها في سياق إعادة هيكلة الدين. إنما بوصول ميقاتي إلى الحكم، تنفّس «اللوبي المالي» الصعداء، وبدأت بتحسين موقعها، حتى استعادت اليوم نفوذها، وكأن شيئاً لم يكن؛ لا الودائع نهبت، ولا هي أفلست بل يكاد أداؤها يشي بأنها اللاعب الأقوى على الطاولة. تُمسك السلطة السياسية من اليد التي تؤلمها: ترفض المحاسبة القضائية، تلوّح بالتهديد، وتنفّذ إضرابها على قاعدة: «أنا الخصم والحَكم».
في المقابل، الدولة عاجزة حتّى عن المجاهرة بضرورة عدم التصعيد، وهي تلبّي طلبات جمعية المصارف بـ«تم ساكت». في حين أن الأخيرة لا تراعي الحد الأدنى من طلبات الدولة، فأبقت مثلاً على رواتب موظفي القطاع العام والعسكريين محتجزة إلى ما بعد فكّ الإضراب.
«اللادولة»
هذه الدولة نفسها التي «هدّت الحيطان» حين قرّر موظفو القطاع العام إعلان الإضراب الشامل، لأن رواتبهم أصبحت بالكاد تكفي للانتقال إلى مراكز عملهم. سريعاً، «أكلت» الدولة الموظفين وفضّت إضرابهم بعدما جرت تجزئتهم. المقارنة بين الإضرابَيْن تختصر رؤية السلطة السياسية وسلوكها، وتُظهر بما لا يقبل الشك كيف يُمكن للدولة أن «تتلوّن»؛ مرّة ترتدي ثياب الأقوياء – «الحرابيق» ومرّة تخلعها وتُصبح أشبه بطفلةٍ تتلقّى الأوامر وتخضع للسلطة الأعلى.
هي «اللادولة» على حد وصف الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات في دولة» شربل نحاس. لا يضع الرجل المسؤولية كلّها على الدولة، وإنما أيضاً على المواطنين الذين استرضوا الخضوع وبنظرة الألوهية إلى المصارف على قاعدة أنهم بحاجة إليها، تماماً كالمريض الذي يحتاج إلى الطبيب، ومنها تولّدت القناعة لدى غالبية القوى بأن الحاجة إلى المصارف أكبر بكثير من حاجتهم إلى الإدارات العامة، مضيفاً: «بالمختصر، نحن لا نريد دولة».
خلف: أنا ضدّ الدعاوى على المصارف
«الناس انهزمت» يقول الوزير السابق، الذي يشير إلى أن السلطة السياسية روّضت الشعب وهزمته وقضت على لحظة الغضب التي بدأت في 17 تشرين وأنتجت التجرّؤ على تحرّكات موجّهة حكماً إلى المصارف. ولذلك، يشدّد نحاس على أن «الأمر ليس إذا ما كانت المصارف أقوى من الدولة أو العكس، على اعتبار أننا نعيش في ائتلاف قبائل تُسمّى طوائف وفيها يصبح كل شيء مباحاً».
هذا أيضاً ما يتحدّث عنه النائب ملحم خلف الذي يرى أننا نعيش في لحظة تحلّل الدولة وأدواتها، منتقداً «تعميم ثقافة اللامساءلة». ويلفت إلى أن «الحلّ الوحيد هو استعادة الدولة وإلا سيسقط الهيكل على رؤوسنا».
مساكنة نقابية
هذه «اللادولة» التي يحكي عنها نحاس وخلف، تتبدّى أيضاً في غياب إحدى أهم ركائز الدولة: النقابات. هذا ما ظهر بشكلٍ فاقع في إضراب موظفي القطاع العام وحتى في الإضرابات المتكررة التي أعلنتها جمعية المصارف. وهو ما بدا أيضاً خلال الندوة التي نظّمها اتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان الأسبوع الماضي. فبدلاً من أن يتحدّث هؤلاء عن مطالبهم ومعاناتهم في ظل الأزمة المالية، كان المتحدثون هم رؤساء مجالس إدارة المصارف والأمين العام في جمعية المصارف!
هذا واحد من الأمثلة الكثيرة على غياب النقابات العمالية ومهماتها وصفتها التمثيليّة. فعلياً، «سطا» المديرون وكبار الموظفين على هذه النقابات وسيطروا عليها من أعلى الهرم حتى أسفله. «اقتاتوا» منها حتى تحوّلت إلى هياكل وهميّة؛ لا هي تجرؤ على مواجهة الإدارات ولا قادرة على عكس صورة الشرائح الاجتماعية المنكوبة من جراء الأزمة، وهو ما يشير إلى أسباب غياب القيادة النقابية الفعالة التي توصل موظفي القطاع العام إلى مطالبهم بدلاً من أن توزّع عليهم جوائز ترضية لا تغني ولا تسمن من جوع.
يؤكد شربل نحاس هذا الأمر، ويشير إلى أن تدمير النقابات كان مدروساً منذ إرساء النموذج الاقتصادي في التسعينيات، إذ كانت السلطة تدرك أنها تريد مكاناً وحيداً يصوّر أنه للعمال وهو الاتحاد العمالي العام التابع للسلطة السياسية، وبالتالي كان مطلوباً من هذا الجسم العمالي ألا يتحرّك إلا بحسب رغبات القوى السياسية حتى لا «يخربط» الأجندات المالية المعمول بها.
يدرك نحاس أن النقابات كان يمكنها أن تُحرّك قضية الودائع، لكنها لم تفعل، وفضّلت مساكنة النظام الاقتصادي بالشروط التي فرضها، وإلا لكانت هذه النقابات قد طالبت بحقوقها من «الصناديق الاجتماعية» المحتجزة داخل البنوك، لكنها لم تفعل. هذا ما ينفيه خلف، الذي يذكّر بالاجتماعات التي قام بها برفقة نقابات المهن الحرة إلى المسؤولين، بالإضافة إلى الكتب التي أرسلها كنقيب للمحامين في حينه إلى الوزارات المعنية لعدم التطاول على الودائع.
يرفض خلف «فتح المشكل» مع المصارف، على عكس نحاس. يُشبه خلف المواطنين الذين يخافون من قدرة المصارف على تركيعهم بتهديدهم بأموالهم المحتجزة. هؤلاء الذين يعتقدون بأن «نسير إلى جانب الحائط ونقول يا رب السترة»، بدلاً من رفع الصوت ومجابهة «لوبي المال». ويقول خلف: «أنا ضدّ الدعاوى القانونية على المصارف لأنها تحتاج إلى دراسة معمّقة وتمحيص جدي باعتبار أن تداعياتها كبيرة، ويمكن للمصارف أن تتخذ تدابير مجحفة بحقّ المودعين».
في الخلاصة، «تكابش» المصارف الدولة والمواطنين، لكنها لا «تأكل كفاً»، بل العكس هو الصحيح، إذ تخرج من معاركها بما فيها تلك التي تبدو فيها خاسرة، وهي ترفع علامة النصر!