الرئيسية / صحة ورياضة / واقع الجراحات القلبية في لبنان والعالم في العام 2022: (الجزء العشرون)

واقع الجراحات القلبية في لبنان والعالم في العام 2022: (الجزء العشرون)

نجاح اوّل عمليات زراعة قلب الخنزير المُعدّل وراثياً عند البشر: التجارب الأوّلية، الإشكاليات والتحدّيات

في الجزء السابق من هذا الملف المُخصّص للحديث عن واقع جراحة القلب والشرايين في لبنان والعالم في العام 2022 تكلّمنا عن التجربتين الأنغلوفونية ( الأسترالية، البريطانية والأميركية) والفرنسية الأوّلية في إستخراج القلب من جثث اشخاص توفّوا منذ دقائق نتيجة صدمة مُعينة ادّت الى توقّف القلب (Donation after Cardiac Arrest)، وهي برامج بدأ العمل بها كما ذكرنا سابقاً منذ سنوات لزراعة القلب في كل من استراليا، بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، ولا تزال قيد التقييم قبل الإعتماد النهائي في فرنسا وكندا وغيرها من الدول. وشرحنا اهمية استعمال جهاز رعاية الأعضاء (TransMedics
(Organ Care System: OCS
في تحقيق هذا الخرق الرائع في تطوير هذه الطريقة لأنه يسمح بالمحافظة على القلب المُستخرج بطريقة جيّدة ولفترات طويلة قد تصل الى 16 ساعة، مما يسمح للجراحين بإستخراج القلب بشكل مُريح ونقله بهدوء ولمسافات بعيدة جداً او من مناطق نائية ومعزولة دون ان يكونوا مُربكين ومتوتّرين جداً نتيجة سعيهم لإحترام “عامل” او “قيد الوقت” الذي كان يجب الّا يتجاوز ال 4 ساعات في كل العمليات التقليدية لزراعة القلب، والتي لا تزال مُعتمدة في معظم دول العالم حتى تاريخ اليوم مع زراعات القلب الروتينية التقليدية.
في هذا الجزء، سوف نتطرّق بشكلٍ تفصيلي للتطوّر الأخير والهائل الذي حصل في بداية هذه السنة والذي تمثّل بزراعة “قلب خنزير مُعدّل وراثياً او جينياً” عند البشر، وهو البرنامج الذي بدأ العمل به في الولايات المتحدة الأميركية عبر نجاح زراعة ثلاثة قلوب من هذا النوع في ثلاثة مراكز مختلفة هناك، ممّا دفع السلطات الصحية المركزية هناك للدفع لتسريع هذا البرنامج ودعمه للحصول على نتائج افضل، خاصةً وان المريض الأول الذي تمّ زرع هذا القلب عنده عاش ما يقارب شهرين. وسنشرح ما هي التجارب الحاصلة في هذا المجال حتى تاريخ اليوم؟ وكيف ولماذا تمّ إستعمال قلب الخنزير؟ ولماذا إجراء بعض التعديلات الوراثية لتسهيل عمليات الزرع؟ وما هي اهم الإنجازات والعوائق والمخاوف من جرّاء هكذا عمليات، وما هو مستقبلها؟
1- مقدّمة:
بعد الحدث التاريخي او الابتكار العلمي الذي احتلّ حيّزاً كبيراً من إهتمام الرأي العام العالمي ووسائل الإعلام العالمية ووسائل التواصل الإجتماعي والأوساط العلمية المُتخصّصة في زراعة الأعضاء، والذي جرى مُؤخراً في “جامعة ماريلاند-(الاباما) ” في الولايات المتحده الاميركيه والذي تمثّل بنجاح اول عمليه زراعه قلب خنزير مُعدّل وراثياً او جينياً عند البشر، تجرّأ الكثير من الخبراء والمهتمّين في علم زارعة الأعضاء على طرح السؤال التالي: اخيراً قلب خنزير مُعدّل وراثياً للجميع حقاً؟! وهل نحن على ابواب إحداث الخرق الأهم في تاريخ الطب وفي مُستقبل زراعة القلب والأعضاء الأخرى تحديداً؟! وهل سيقدر قلب الحيوان الأصغر حجماً والذي وُجد ليحمل حيواناً يمشي على اربعة قوائم مع وضعية الرأس في الأسفل، على القيام بوظيفته الكاملة عند الإنسان الأكبر حجماً والذي يمشي على رجليه ورأسه للأعلى؟! وماذا عن العواقب والمخاطر والمحاذير التي قد تترتّب على ذلك؟! وما هو موقف الجمعيات المُدافعة عن حقوق الحيوان من ذلك؟ وما هو موقف الديانات التي لا تسمح بتربية او تناول لحم الخنزير كالإسلام واليهودية؟ والجدير ذكره أنّ هكذا محاولات كانت قد بدأت منذ فتره طويله بحيث أنه تمّ في الولايات المتحده الأميركيه تحديداً زراعه قلب “شامبنزي” سنه 1964 وعاش المريض يومها فقط ٩٠ دقيقه ثم توفي. وبعدها توالت الأبحاث كما سنرى، الى أن وصلنا اليوم الى هذه العمليه التي يجري فيها تعديل وراثي على الخنزير الذي يُستخرج منه القلب، بحيث يتمّ “منع او كبح” بعض الجينات المسؤوله عن صناعه “بعض البروتينات” او “المستقبلات” او “مولّدات الاجسام المُضاده” (Antigens)، و”تفعيل عمل بعض الجينات الأخرى” (اربع جينيات على الاقل) لمنع حصول “تخثّر في القلب المزروع” وفي “دم الانسان المتلقّي”. تلك العمليه التي دخلت التاريخ استغرقت ٧ ساعات. والمريض الذي اُجريت له يدعى “دايفيد بينيت” عاش شهرين بعد نجاح العمليه وهي فترة اطول بكثير من الفترة التي عاشها اول مريض خضع لعملية “زرع قلب طبيعي بشري” في 3 كانون اول سنة 1967 في جنوب افريقيا والتي كانت فقط 18 يوماً كما ذكرنا في المقالات السابقة!؟، ثم توفي بسبب التهابات فيروسية اصابت القلب المزروع. ويأمل الأطباء في استكمال الأبحاث في هذا المجال كي يعيش المرضى لفترات اطول في المستقبل بعد معالجة مشكلة الإلتهابات الفيروسية ووضعها جانباً. وبعد وفاه المريض تبيّن ان الوفاه لم تكن ناتجه عن “حاله رفض للقلب المزروع”، إنّما عن اصابه القلب المزروع بإلتهابات فيروسيه ناتجه عن “الفيروس المُضخّم لخلايا الخنزير ” (Cytomegalovirus). وهو ما تسبّب في توقّف وظائف القلب نتيجه اجتياح هذا الفيروس لكل خلايا عضله القلب عند هذا المريض، ممّا أدّى للأسف الى الوفاة.
الجدير ذكره أن هناك حوالي 800 الف مريض ينتظرون زراعه قلب في مختلف أنحاء العالم وأن هناك هوّه كبيره بين عدد من ينتظرون ومن يستطيعون الحصول على “قلب طبيعي” لأن عدد عمليات زراعه القلب لا يتجاوز حالياً 4500 عمليه الى 5000 عمليه سنوياً من ضمنها 2500 عمليه في الولايات المتحده الأميركيه وحدها. بحيث انّه يتوفّى يومياً ما يقارب 17 مريضاً بسبب “قصور عضله القلب المُتقدّم” وعدم حصولهم على قلب من اجل إنقاذ حياتهم.
وبالتالي فإنّ هكذا إنجاز سيؤدّي الى إنقاذ حياة مئات الآلاف من هؤلاء المرضى في كل انحاء العالم في حال تمّ تطويره وتنقيحه بشكلٍ نهائي، واستخراج العبر من هذه التجربه العلميه الرائعه التي حدثت في بدايه العام 2022.
وقد إستكملت فيما بعد بزراعه “كليه” من “خنزير مُعدّل وراثياً” تمّ زرعها عند شخص “متوفي دماغياً”. وبالفعل قامت الكليه بوظيفتها بشكلٍ طبيعي. ثم جرى في الشهرين الماضيين زراعه قلبين من خنزيرين مُعدّلين وراثياً ايضاً، تمّ زرعهما عند مرضى متوفين دماغياً. وبالفعل قام ايضاً هذان القلبان بوظيفتيهما على أكمل وجه. ويأمل الأطباء إستكمال هذه الأبحاث لتطوير هكذا ابتكار طبي رائع سيُمثّل خشبة الخلاص لآلاف المرضى الذين ينتظرون معظم انواع الأعضاء التي تُزرع عبر أنحاء العالم.

2-دور الأطباء من “اصول عربية واسلامية” في هذه الإبتكارات المهمة في جراحة القلب :
إذاً كما بتنا نعلم جميعاً، نجا أول مريض في العالم يتلقّى عملية زرع قلب من خنزير مًعدّل وراثياً لمدة شهرين تقريباً. ديفيد بينيت، 57 عامًا، كان يُعاني من “قصور خطير في عضلة القلب في مراحله النهائية” مع عدم “انتظام في ضربات القلب”. وقد خضع لعملية جراحية في 7 كانون الثاني(يناير) 2022 على أساس إذن مُسبق من “وكالة الغذاء والدواء الأميركية” (FDA) على اساس “العلاج الرحيم”، اي ان الفريق الذي اجرى العملية عنده اخذ إذن مُستعجل وخاص من تلك الوكالة من أجل إجراء هكذا عملية كآخر حلّ مُمكن لكي يبقى هذا المريض على قيد الحياة، عندما لم يعد هناك أي حلّ علاجي بديل آخر يُقدّمه له الأطباء في المستشقى الموجود فيها.
وهنا لا بدّ من الإشارة والتنويه بالدور الكبير الذي لعبه “الدكتور محمد محي الدين” وهو “جرّاح قلب اميركي” من اصل “باكستاني”، والذي كان القائد الفعلي والمشارك الأساسي في الفريق الذي أجرى العملية. فهو الذي كان على رأس الفريق الطبي الذي استخدم “عقاراً تجريبياً جديداً” طوّره محيي الدين جزئياً وأسُتعمل لأول مرّة في هكذا عمليات، لتثبيت جهاز المناعة ومنع الرفض.وهذا ما يُؤكّد مرّة اخرى الدور الأساسي للأطباء العرب والمسلمين الذين يبرعون في دول الغرب وفي الولايات المتحده الأميركيه تحديداً، ويُشاركون في أهم وأبرز العمليات والإختراعات التي ستكون لاحقاً وسائل إنقاذ للبشريه جمعاء، والتي ستُغيّر وجه العالم طبيّاً في الأمدين المتوسط والبعيد. وكان قد سبقه في تحقيق إنجازات مُماثلة هائلة في جراحة القلب تحديداً كل من جرّاحي القلب “مايكل دبغي” الأميركي من اصل لبناني ( اصله من مدينة مرجعيون اللبنانية الجنوبية تحديداً) في الولايات المتحدة وهو الأب المخترع لعشرات الإبتكارات في جراحة القلب وجراحة الشريان الأبهر تحديداً وكان له سجلّ حافل في الأبحاث الطبية وتطوير تقنيات جراحة القلب هناك. كذلك الأمر بالنسبة ل”مجدي يعقوب” وهو الجراح البريطاني من “اصل مصري” والذي لعب الدور الأساسي في تطوير وازدهار جراحة القلب في بريطانيا وله عدة طرق وتقنيات جراحية قلبية تُعرف بإسمه الشخصي ايضاً كما “مايكل دبغي”!

3-تعريف مصطلح زراعة القلب
“غيرالمُتجانس” (Xenograft):
في المصطلحات العلمية، تُسمّى العملية التي أجراها هذا المريض الأمريكي المذكور اعلاه بـال Xenograft (أو Xenotransplantation). وهذا إجراء جراحي يهدف إلى زرع طعم صحي (هنا عضو كامل هو القلب) في مريض، آتٍ من او ينتمي الى “جنس او نوع بيولوجي” مُختلف عن جنس او نوع المتلقي. وبالتالي فهو يختلف عن الطعم المُتجانس (أو الزرع المُتجانس) (Allograft) الذي يؤتى فيه العضو المزروع من نفس نوع المتلقّي اي من إنسان الى إنسان في هذه الحالة.
وتأتي هذه الخطوة في مواجهة النقص المُتزايد بإستمرار في عدد الأعضاء المُتوفرّة للزراعة خاصة في مجال زراعة القلب، والذي تفاقم على وجه الخصوص بسبب التداعيات الصحية الكارثية ل “جائحة كورونا” (Covid-19) التي عاش فصولها العالم اجمع منذ ثلاثة سنوات. ولذلك تضاعف البحث على زراعة الأعضاء غير المُتجانسة (Xenografts). ويُمكن بالفعل إعتبار هذا المجال كبديل لإختلال التوازن الحالي بين عدد قليل من الأعضاء المُتاحة وعدد كبير من المرضى الذين ينتظرون عمليات الزرع.
في حين أن هذا الإنجاز الطبي الجديد كان موضوع كل اهتمام وسائل الإعلام ، وأحيانًا أثار آمالًا كاذبة، فهل يمكننا اليوم حقًا اعتبار زرع (Xenotransplant) بمثابة تقدّم طبي كبير؟ وما هو مُستقبل ال (Xenograft) بشكلٍ عام؟
وما هو موقف الدين والعقيدة والفلسفة والمعتقدات المختلفة من هذه الخطوة؟! وهل سيتقبّلها الجميع بسهولة؟!
ولذلك لا بُدّ هنا من الإشارة الى ان تلك العملية اثارت حفيظة العديد من الجمعيات التي تدافع عن حقوق الحيوان في الولايات المتحدة وخارجها ورفضت قطعاً إجراء هكذا عمليات لأنها تعتبر ان من حقّ الحيوان أي الخنزير في هذه الحالات) ان يعيش حياة طبيعية وان لا يُستعمل ك قطع غيار للبشر واعترضت كثيراً على التعديلات الوراثية التي أُجريت وادّعت انها لا تعرف الى ماذا ستؤدّي في المسقبل عند جنس الخنزير! اما ردود افعال وتعليقات المرجعيات الدينية فلم تعترض مبدئياً على ذلك بحيث قال “كبير خامات لندن” ان ذلك لا يجب ان يمنع اليهود من الحصول على هكذا اعضاء حتى ولو اتت من الخنزير المُحرّم عندهم تربيته واكله طالما ان فيه إنقاذ لأرواح بشر وخلاصهم من امراض مميتة في معظم هكذا حالات. كذلك كان ردّ فعل دار الإفتاء في مصر والذي لم يبدي رفضه المبدئي على حصول هكذا عمليات طالما فيها إنقاذ لحياة بشر سوف يموتون في حال عدم حصولهم على هكذا علاجات. ونشير اخيراً الى ان “صمامات القلب البيولوجية” التي تُستعمل في علاج مشاكل صمامات القلب منذ حوالي 45 سنة او اكثر تحتوي على مُكونات مأخوذة من قلب او غشاء قلب “الخنزير” او “الثور”، وهي مُستعملة دون اي اعتراض في معظم دول العالم الغربي والإسلامي !؟

4-لمحة تاريخية عن تطوّر هذه العمليات:
إنّ مفهوم ال Xenograft ليس جديداً، فقد جرت في السابق العديد من المُحاولات السريرية لنقل اعضاء الحيوانات إلى البشر على مدى القرون الثلاثة الماضية.
فهذه الطريقة بدأت عندما قام الأطباء في الماضي ب”نقل الدم” من الحيوان الى الإنسان منذ زمن طويل. وقد كان أول مريض تمّ نقل الدم عنده من دم الحمل في العام 1667. ثم جرت بعد ذلك اول عملية “زرع قرنية” من الخنزير إلى الإنسان في عام 1838، قبل وقت طويل من أول عملية زرع قرنية من إنسان الى إنسان آخر في العام 1905.
بعد ذلك بدأت الإختبارات الملموسة الأولى لنقل اعضاء كاملة (Xenografts) في الستينيات من القرن الماضي. وفي عام 1964، تمّ زرع ست “كلى” مأخوذة من “الشمبانزي” عند مرضى كانوا يُعانون من مرض قصور الكلى في مراحله النهائية. نجا أحدهم، وهي مُدرّسة تبلغ من العمر 23 عاماً، وعاشت تسعة أشهر من طعم ال (Xenograft). وفي نفس العام، تمّ زرع “قلب شمبانزي” لمريض أمريكي. توفّي في غضون 90 دفيقة من الجراحة. ثم في عام 1984، حصلت في الولايات المتحدة، قصة “ستيفاني فاي بوكلير” ، الملقبة “بيبي فاي”، والتي تمّ عندها زرع قلب من “أنثى قرد” شابة في سن 15 يوماً. وتوفيت المريضة بعد 21 يومًا من العملية.

5- “التعديل الجيني او الوراثي” احد اهم اعمدة أبحاث زراعة الأعضاء من الحيوان:
كما في حالة الطعم المُتجانس من إنسان الى إنسان، فإن أهم عقبة أمام زرع الأعضاء من الحيوان عند الإنسان هو “رفض العضو المزروع” من خلال سلسلة من آليات المناعة. وهنا يجب ان نتحدّث عن ثلاث حالات هي “الرفض الحادّ المُفرط” أو “الرفض الحادّ” أو “الرفض المزمن”.
ويُمكن القول أن تناول “الأدوية الكابحة او المُثبطة للمناعة” من المُمكن ان يقلّل من هذه المخاطر بشكلٍ كبير ولكنه لا يقضي عليها. ويعتمد نجاح عملية الزرع على القدرة على إيجاد توازن بين “كبح او تثبيط المناعة” الكافي (لضمان عدم الرفض المُرتبط بإدخال عضو يُعتبر غريباً إلى الجسم) والحفاظ على دفاعات الجسم لتمكينه من منع حصول اية انواع من الالتهابات ومكافحتها. ويبقى الرفض المُزمن أو طويل الأمد للعضو هو المشكلة الأساسية التي تواجه هكذا عمليات وهو المشكلة الكبيرة التي يجب حلّها.
في السنوات الأخيرة، اعتمدت أبحاث ال (Xenograft) بشكلٍ مُتزايد على النهج “الجيني” او “التعديل الوراثي” للتغلّب على مُشكلات الرفض الفوري (أو الحادّ جداً) للعضو المزروع. وبفضل هذا النهج الجيني أيضاً، تمكّن الأطباء الأمريكيون الذين عملوا على هذه التجارب الرائدة من تسهيل تكيّف قلب الخنزير مع جسم الإنسان المريض.
وفي الواقع، لقد نجحوا من خلال تعديل عمل عشر جينات في منع او قمع تعبير بعض “البروتينات” المُعيّنة التي تلعب دور “مولّدات المضادات” (او المُستضدّات) (Antigens) على سطح خلايا الخنازير, والتي حتى ذلك الحين كان جسم الإنسان يتعرّف عليها على أنها غريبة، وبالتالي تمكّنوا من منع الجهاز المناعي للمريض من التدمير الفوري للعضو الحيواني.
وأجُريت تحديداً على هذه القلوب أربع تعديلات وراثية على الخنزير لمنع رفض القلبين والنموّ غير العادي للعضوين، وشملت تعديلات للمساعدة في التغلّب على أوجه عدم التوافق بين الخنازير والبشر اي لتقريب النوعين من بعضهما البعض. وتمّ ايضاً خلال العملية تعديلات اخرى طالت جينات لمنع عدم حصول “تخثّر او تجلّط” في قلب الخنزير المزروع وفي دم الإنسان المتلقي لأن ذلك قد يكون له تداعيات كارثية في حال حدوثه بعد عملية الزرع.
وأدّت هذه النتائج، جنباً إلى جنب مع التطوّرات الحديثة في مجال العلاج المُثبّط للمناعة ( الدواء الذي طوّره الدكتور محي الدين تحدياً) وغيرها من مناهج التعديل المناعي، إلى زيادة إحتمالات التغلّب على الرفض المُفرط لطعم أجنبي.

6- الأنواع المُختلفة لرفض الزرع بشكلٍ عام:
يحدُث “الرفض شديد الحدّة” في غضون دقائق من الزرع. إنه يتوافق مع الإحتقان او الازدحام الهائل والمفاجئ للعضو المزروع بالكامل والتوقف المفاجئ والنهائي عن وظيفته. ويتمّ حالياً تجنّب هذا الرفض عن طريق الفحص المُسبق لتوافق أنسجة المُتبرّع والمُتلقّي (فحص تجانس نظام ال HLA) وهذا ما يتمّ مراعاته من طرف الأطباء حتى اليوم في عمليات الزرع التقليدية. وهي الظاهرة التي كانت تحدث في الماضي في محاولات الزرع غير المتجانس التي جرت، وما تمّ تقريباً التغلّب عليه من خلال التعديلات الوراثية الحالية التي اُجريت على قلب الخنزير.
ويحدُث “الرفض الحادّ” بعد أيام قليلة من الزرع. وإذا كان اليوم من المُمكن التحكّم ب”المناعة الخلوية” بواسطة مُثبطات المناعة، فقد تكون “المناعة الخلطية” التي تمرّ بوساطة “الأجسام المُضادة” مشكلة كبيرة ليس لها علاجات فعّالة حتى تاريخ اليوم. وتتعرّف هذه الأجسام المُضادّة على خلايا العضو المزروع وتلتصق به، مما يُؤدّي إلى سلسلة من ردود الفعل التي تؤدي إلى حصول ضرر كبير في العضو المزروع وبالتالي تدميره.
و يحدث “الرفض المُزمن” للعضو المزروع على المدى الطويل بعد الزرع، ومع مرور الوقت. وهنا تتعرّض الطعوم المزروعة للتلف وتفقد وظائفها تدريجياً.
وهذا الرفض المزمن يحصل عن طريق آليات مُختلفة تجمع بين ردّة الفعل او الإستجابة المناعية، مخاطر واذى الإستعمال طويل الأمد للأدوية المُثبّطة للمناعة وغيرها من الظواهر البيولوجية أو المعدية او الإلتهابات المزمنة في العضو المزروع. وهي جميعها لا تزال موضوع ابحاث واسعة.

7- ما مستقبل عمليات الزرع “غير المتجانس” والسعي لبلورتها اكثر وتحصين نتائجها؟
في المستقبل القريب، وبهدف النهوض بأبحاث ال (Xenograft)، من المُهم للعلماء تحديد الآليات المُتضمّنة في وفاة المريض “ديفيد بينيت”، وهو كما شرحنا المريض الأول الذي تلقّى هكذا زراعة في الولايات المتحدة. وتُشير الفرضيّات الأولية التي صاغها الفريق الطبي الذي قام بتلك االعملية إلى أن الوفاة يُمكن أن تكون مُرتبطة بوجود احد “فيروسات الخنازير” في قلب الحيوان. هذا الفيروس المُسمّى ب”الفيروس المُضخّم للخلايا في الخنازير” (Cytomegalovirus of the pig) لم يتمّ إكتشافه قبل الزرع خلال العملية المذكورة. وكان من المُمكن أن يُساهم في إتلاف الطعم الحيواني، وبالتالي التسبّب في مُتلازمة إلتهابية مُعمّمة وهذا ما حصل بالفعل. وإذا تمّ تأكيد هذه الفرضية في ابحاث اخرى لاحقة، فمن المُمكن أن تستمرّ عملية زرع قلب الخنزير الخالي من هكذا فيروسات من الناحية التقنية او الفنية لفترة أطول من شهرين او اكثر كما يحصل حالياً في حالة زراعة القلب البشري. ومع ذلك، سيكون من الضروري تطبيق سيطرة أكثر صرامة على الطعوم قبل زرعها والتأكّد من خلوّها بالكامل من هكذا فيروسات.
وعلى المدى الطويل، فإن اعتبار ال (Xenograft) كبديل للزرع التقليدي (قلب بشري طبيعي) يُثير أسئلة أخلاقية، قانونية، فلسفية، معتقدية ودينية كثيرة تتعلّق باستخدام الحيوانات كمانحين وهي اسئلة مشروعة بدأت تُطرح في مواكبة التسارع الكبير الحاصل في هذه التجارب.
وبحسب دارسة اجريت على حوالي مئة شخص خضعوا لعمليات زرع قلب في السابق او موجودين حالياً على لوائح الإنتظار، ظهر ان حوالي 30% منهم يرفضون قطعاً فكرة الخضوع لهذا النوع من العمليات، و 25 % لديهم اسئلة كثيرة وشروط مهمة للقبول بهذا الموضوع. واخيراً ظهر ان حوالي45% منهم يقبلون العملية دون شروط مُحدّدة.
وهناك قيد آخر يجب أخذه في الاعتبار، وهو خطر “إنتقال الأمراض حيوانية المصدر” الى الإنسان، أو في هذه الحالة المحددة (Xenozoonoses)، اي خطر الأمراض المعدية والفيروسية التي قد تنتقل من الحيوانات إلى البشر في ظل الظروف الطبيعية.
وهذا الموضوع الأخير يُثير اسئلة كثيرة وخطيرة عند الخبراء والعلماء المُهتمين بزرع الأعضاء، خاصة واننا لا نزال نعيش حتى الساعة التداعيات الصحية والإقتصادية الكارثية التي تسببت بها “جائحة كورونا” والتي يُقال انها قد تكون نتجت عن هكذا عمليات مُماثلة بعد إنتقال “الفيروس التاجي” المسؤول عنها من “الخفافيش” الى “الإنسان”.
ورغم كل تلك المخاوف، وفي كل حالة من الحالات المذكورة ، تمكنت السلطات الصحية الأمريكية من منح الباحثين والأطباء الإذن بإجراء العملية الجراحية “الأولى” على “أساس الرحمة او الرأفة” كحلّ تجريبي اخير لا بديل له ابداً لإنقاذ حياة المريض “بينيت”، وذلك بعد اخذ موافقة المريض ، لأنه لم يكن هناك سبيل علاجي آخر ممكن .
وبعد ذلك وفي شهر تموز من هذا العام تحديداً قام باحثون في “جامعة نيويورك” في نقل قلبي خنزيرين مُعدّلين وراثياً لشخصين “ميّتين دماغياً” (بهدف إستكمال الأبحاث على هذه القلوب ومعرفة كيف سيعمل هذا القلب في جسم الإنسان وكيف سيقوم بوظيفته ومن اجل اخذ عيّنات مُتكرّرة لدراسة ردّة فعل الجسم عليهما وخلوّهما من الإلتهابات الفيروسية وما الى ذلك….)، وذلك في خطوة تُقرّب البشرية من هدف طويل الأجل يتمثّل في نقل أعضاء الخنازير او حيوانات اخرى للبشر لحلّ مُشكلة نقص الأعضاء البشرية.
وقال الجراحون الذين قاموا بهذه العملية في مؤتمر صحافي إن القلبين عملا على “نحو طبيعي” من دون دلائل على رفضهما خلال التجارب التي استمرّت ثلاثة أيام.
وقال الباحثون إن “جامعة نيويورك” اشترت قلبي الخنزيرين اللذين عدّلتهما شركة “ريفيفيكور” وفحصتهما بحثاً عن الفيروسات بإستخدام بروتوكول مُراقبة مُعزّز.
ولم يظهر في القلبين أي دليل على وجود فيروس الخنزير الذي يُسمّى “الفيروس المُضخّم للخلايا في الخنازير الذي تمّ إكتشافه في دمّ رجل “جامعة ماريلاند الشهير” والذي يعتقد الخبراء بشكلٍ شبه جازم انه ربما يكون قد أسهم في وفاته.
وكان الباحثون في جامعة نيويورك قد أجروا أيضاً عملية زرع كليتي خنزيرين لشخصين “ميّتين دماغياً” في عام 2021، وهذا ما يفتح باباً كبيرا أمام زراعه اعضاء حيوانيه للإنسان، غير القلب، فيمكن زراعه الكلى، والكبد، والقلب وغيرها من الأعضاء.
ويعتقد الباحثون في الوقت الراهن بأن زرع الأعضاء الخارجية أكثر أماناً عند المرضى “المُتوفّين دماغياً” مُقارنة بالمرضى الأحياء، كما أنه أكثر فائدة لأنه يُمكّن الفُرق الطبية التي تقوم بالتجارب من أخذ عيّنات وإجراء فحوصات في كثير من الأحيان,
وفي 4 تموز (يوليو) 2022 نُشرت في مجلة New England Journal of Medicine تفاصيل إضافية عن العملية
التي أجريت في كانون الثاني (يناير) الماضي. عند المريض ديفيد بينيت ، المتلقي الأول في العالم لقلب الخنزير ،والذي توفي بعد شهرين من العملية، وحيث قام الباحثون بتجميع الكثير من البيانات في محاولة لشرح وفاة ذلك المريض. وحيث وجدوا انه لا توجد علامات على رفض الزرع “الكلاسيكي” ، لكنهم يُؤكّدون وجود الفيروس المُضخّم للخلايا الخاص بالخنازيز في ذلك العضو . وبحسب الخبراء فقد ساهمت العوامل المُرتبطة بالحالة العامة غير “المُستقرّة للمريض” حتى قبل الزرع وإعطاء العلاجات المُثبطة للمناعة في النتيجة المُميتة لعملية الزرع. ووفقًا لنتائج التشريح ، تضاعف حجم القلب المزروع عندما توفي المريض.
ولذلك، يقول اهم الخبراء الذين شاركوا في تنفيذ هذه العملية الدكتور “جريفيث” ان هكذا عمليات يجب ان تجري على مرضى يُعانون من قصور مُتقدّم في عضلة القلب ولكن يجب ان يكونوا في حالات اقلّ تدهوراً وخطورةً من الحاله التي كان فيها “ديفيد بينيت” والتي تُعتبر بالنسبة له وللفريق الذي اشرف على تنفيذها عمليّته “تجربة تعليمية مهمة” يجب ان تُسكتمل بأبحاث اخرى.
ولذلك فإنّ هيئة الصحة الأمريكية (وكالة الغذاء والدواء الفدرالية الأميركية) تعمل حالياً على تطوير إطار عمل مُمنهج للتجارب السريرية المُستقبلية لعمليات زرع الأعضاء من هذا النوع. كذلك أعلن فريق من الجراحين من “جامعة ماريلاند- ألاباما” المهتمين ايضاً بهكذا ابحاث وتجارب عن مشاريعه التي ستُسكمل في هذا المجال، بالإضافة تجارب وابحاث فريق جامعة نيويورك بدعم من الوكالة الأميركية للغذاء والدواء كما ذكرنا. وبما انّ عملية الأخير كانت تحت عنوان “إذن خاص رحيم” ، ولم يكن ابداً مُؤهّلاً او يستوفي الشروط المطلوبة لإجراء عملية زرع قلب بشري بسبب التردّي الكبير لحالته، فقد شجّعت وكالة الغذاء والدواء الأمريكية بعد وفاته، فريق الجراحين الذي عمل على كل هذه التجارب في “مريلاند”
و”نيويورك” وفي مراكز اخرى تعمل على هكذا برامج على مواصلة تجاربهم على هذه القلوب وعلى قلوب “قردة البابون” ايضاً من اجل تطوير هذه الطريقة ووضعها على سكّتها الطبيعية.
اما لماذا تمّ إختيار قلب الخنزير لهكذا تجارب فهو وكما شرح العديد من الخبراء لأن قلب الخنزير قريب جينياً من قلب البشر، وحجمه مُتناسق تقريباً مع حجم قلب الإنسان ولو انه اصغر بقليل من هذا الأخير. واخيراً لأن الأطباء لديهم التجارب السابقة الطويلة الأمد مع الصمامات البيولوجية التي تحتوي مكونات مُستخرجة من الخنزير والتي لم تطرح اية إشكاليات حتى تاريخ اليوم وهي متينة جداً وتدوم لفترات تتراوح بين 10 الى 15 سنة كما ذكرنا سابقاً. واخيراً لأن الخنزير متوفر بكثرة في المزارع المُخصّصة لتربيته ولا يشكل الحصول على اعداد كبيرة منه مشاكل معقّدة في مراكز الأبحاث في الدول المتقدمة التي تجري فيها هكذا تجارب.

د طلال حمود- طبيب قلب وشرايين،
مُتخصّص في علاج امراض القلب بالطرق التدخّلية وفي علاج مرضى القلب المُصابين بمرض السكّري،
مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود

شاهد أيضاً

الخنّاق الصدري المُستقرّ: طُرق وكيفيات العلاج والتدخّل..    امراض القلب والشرايين في لبنان والعالم في العام 2022  (الجزء الثاني عشر)

الخنّاق الصدري المُستقرّ: طُرق وكيفيات العلاج والتدخّل.. امراض القلب والشرايين في لبنان والعالم في العام …

الاشترك بخدمة الخبر العاجل