من سخافات الزمن السياسي الهابط أسوة بالانهيار الذي يشكل “أعظم” إنجازات العهد البادئ بالعد العكسي لرحيله أن يهيمن، في بداية الستين يوماً على نهاية العهد، اللغو العقيم والسجالات السقيمة ويطغى على الواقع الداخلي المنذر بأفدح العواقب. لعل من فائض أفضال العهد في آخرته أن يندفع هو ودوائره الى تعميم خطاب تخويني مقذع لكل المناهضين والمعارضين والتائقين للتخلص منه بزعم “التحريض الطائفي”، الحجة الأرخص استسهالاً لنفض مسؤوليته عن إذكاء مناخ التوترات المتنوّعة في البلاد. ومع ذلك نسارع الى النصح بعدم التوقف إطلاقاً بعد الآن أمام أيّ موجات كلامية تمويهية لأن الغرق فيها سيجعل مسؤولية سائر الأوساط السياسية والإعلامية شريكة خطيرة في جنوح لبنان الى الفراغ الرئاسي كخيار أخطر من أيّ احتمال آخر.
وبصراحة مطلقة، لم يعد مقبولاً التفرج أوالتلهّي أو الاختباء وراء حملات الردود العقيمة والسجالات فيما لا يرى اللبنانيون أيّ مبادرات حقيقية جادّة لإطلاق مناخ سياسي ضاغط لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في الموعد الدستوري خلال مهلة الستين يوماً. من غير المعقول أن يمضي اللبنانيون بعد الآن يوميات المهلة الدستورية بهذا الردح المتخلف كملهاة عن الأساس الذي يشكله مناخ تفاعلي لانتخاب الرئيس الرابع عشر وإلا فسنكون أمام تواطؤ سياسي عام على المضيّ قدماً نحو تضخيم ظروف الفراغ الذي سيكون فعلاً أسوأ ما يترصّد لبنان وأكثر بكثير ممّا يتراءى لكثيرين سواء كانوا يعملون للفراغ أو يستسلمون أمام مساره المشؤوم.
لعلنا احتراماً للأصول المبدئية والديموقراطية وأصول احترام الرأي العام نتوقف بتقدير أمام مبادرة نوعية تقدم عبرها على نحو نادر سيّدة لبنانية هي ترايسي شمعون على الترشّح ببرنامج ورؤية بصرف النظر تماماً عن الحسابات وحظوظها وتأثير ترشحها في المعركة الرئاسية. لم يعد التخفّي يوفر حرق أسماء وتعويم أسماء في المعركة المفترضة، وطبعاً لذوي المؤهّلات الجادّة، لأن الزمن الذي كانت تطبخ فيه معارك من النوع المصيري المقرّر في آخر ليالي المهلة الدستورية أو حتى في ساعاتها الأخيرة قد ولّى.
يتعيّن على الساسة اللبنانيين، في أي موقع واتجاه وانتماء كانوا، أن يدركوا حقيقة محدثة وهي أن صناعة الأقدار السياسية، صارت اليوم تدين في معظم تكوينها للثورة المعرفية ووسائل التواصل الاجتماعي، وها هي تجربة الانتخابات النيابية الأخيرة الدليل القاطع، بل ها هي الدورات الثلاث أو الأربع الأخيرة للانتخابات الرئاسية في أكبر نظام ديموقراطي مركّب في العالم، أي في الولايات المتحدة الأميركية، النموذج المعولم للتأثير الساحق لمواقع التواصل في صناعة المصائر السياسية.
نحن اليوم في سنة 2022 ولن يجدي نفعاً المضيّ في عقم اجترار تجارب “إسقاط” الرؤساء الحالي والسابقين على رؤوس اللبنانيين بأنماط ذهبت ولن تتكرّر لألف سبب وسبب. ثم إن اللبنانيين يستحقون، بعد إحراقهم في هذا الجحيم والانهيار، تبديلاً جذرياً في تعامل الطبقات السياسية والنخبوية والإعلامية معهم عبر استحقاق شفاف الى أقصى درجات العلنية والمكاشفة. يكفي صناعات معتمة لأزمان سياسية معتمة ومشؤومة، ويكفي غرقاً في سخافات هابطة بعد كل هذه الأهوال. لم يعد يليق باللبنانيين المكتوين بكل هذه الشرور أقل من نقلهم الى مشهد سياسي – رئاسي مختلف اختلافاً جذرياً عن كل السابق لأن اللبنانيين لم يعودوا بعد هذا الانهيار أدوات تلقي الصفقات أو الصراعات، بل سيغدون قنابل حارقة لبقايا البقايا في أيّ انهيار واعد أكبر!