كتبت النهار
لسنا في معرض تقويم المسار التاريخي للعهود اللبنانية المتعاقبة منذ الاستقلال حتى اليوم ولو ان مناسبة إبحار لبنان راهناً نحو نهاية عهد الرئيس الثالث عشر توجب مراجعات كهذه. ولكن ما يتعين التوقف عنده، خصوصا في الاستحقاق الرئاسي الحالي، وبالأصح أيضا في ذروة ما يعيشه اللبنانيون في ظل الانهيار “كإنجاز” تاريخي للعهد العوني، هو هذا اليتم الفظيع الآخذ بالتعاظم لشعب بات حاضره المرعب يشده أكثر فأكثر الى قامات الماضي ورموزه ولو بعد عقود طويلة متراكمة.
اليوم تصادف الذكرى الـ 40 لاغتيال الرئيس “المنتخب” بشير الجميل عام 1982 ولا يقلّ نبض اللهفة والتحسّر لدى فئات لبنانية واسعة، ولا نقول مسيحية حصراً، حيال مسيرة العشرين يوما ما بين انتخابه واستشهاده قيد أنملة، بل ترانا سنة وراء سنة نعجب لجيل لا يعرف بشير الجميل إلا بالصورة والمرويّات التاريخية يمضي في رفع “بروفايله” كنموذج نادر للرئيس اللبناني المفتقَد.
ما ينطبق على “بروفايل” بشير الجميل لا ينسحب ابدا على اللواء فؤاد شهاب، ولكن هذا الرئيس الذي انتهت ولايته عام 1964 يعدّ بحق الرئيس الأكثر تجذّراً واتساعاً في ضمائر اللبنانيين لجهة كونه الرمز غير المتنازع عليه من حيث تأسيس دولة المؤسسات وإقامة ركائزها الأولى. تكاد تمر ستة عقود على نهاية ولاية فؤاد شهاب و”نهجه” وها نحن امام ظاهرة لا وجود لمثيلتها إلا في كبارٍ عالميين مثل محرر الولايات المتحدة من العبودية الرئيس لينكولن بحيث لا نجد في لبنان اسما اصلاحيا لامعا من شأنه منافسة شهاب في اذهان اللبنانيين.
الرئيس “الآدمي” الخلوق والمتحمل “خطايا العالم” في لبنان الياس سركيس المنتهية ولايته عام 1982 دخل نادي الذاكرة اللبنانية بسيرة امتزجت فيها النظافة والعصامية الشخصية بإدارة أسوأ حقبات التمزق في لبنان بين احتلالات واستباحات الخارج والحرب الاهلية في الداخل. ولكن إرث الذاكرة لدى اللبنانيين حياله بدا كأنه اقرب الى التعامل “النخبوي” الكئيب منه الى ذاكرة الزعامة القيادية ولو ان سركيس كان وارثا وفيّا بحق “لمعلّمه” الشهابي.
أما “شمس” الزعامة الرئيس كميل شمعون فانتهت ولايته عام 1958، وهنا المفارقة الأكثر إثارة للتعمق في ذاكرة الحنين الأشد الى استحضار طينة رؤساء بهذه الجاذبية والمواصفات. سيرة الرئيس شمعون في الرئاسة ولبنان “المنفجر” ازدهاراً في عهده تبدو اليوم، بعد ستة عقود من نهاية عهده، الأشد اثقالا على اللبنانيين في زمن لم يتصوروا فيه وحتى في أسوأ كوابيسهم واشد حقبات ازماتهم وحروبهم عنفا وخرابا ودمارا انه قد يغدو مصيرهم يوما.
المفارقة الأخرى لهذه الظاهرة، في ظل ما تقدّم، هي ان أياً من العهود التي تولى هؤلاء “التاريخيون” فيها الحكم لم تمر من دون أزمات او اضطرابات او حروب، ولكن مآل الانهيار الذي يعيشه لبنان جعل أسماء رؤساء وعهود ورموز تلتمع اكثر بكثير من الواقع الموضوعي الذي كان عليه هؤلاء والذين ارتكبوا بدورهم أخطاء وخطايا ونفّذوا سياسات ليست بمعظمها صافية من مسؤوليات جسام في مسار الإصلاحات او إرساء المؤسسات والدولة وسائر ما يمس بركائز الجمهورية التي اقسموا اليمين على الحفاظ عليها. مع ذلك، ترانا اليوم، امام نزوع شديد الى استحضار الماضي التاريخي رغم كل الانقسامات العمودية التي باتت تحوّل “الشعب اللبناني” الى مجموعات لا نجد تصنيفا محددا لها وليس حتى الى مجرد طوائف. أليس هذا الإنجاز الأكبر اطلاقا؟!