يمنى المقداد – الديار
منذ أن كسر الدولار حاجز 1500 ليرة، أصبحت كلّ السيناريوهات النقديّة والإقتصاديّة تتوقّع له المزيد من الإرتفاعات المرعبة، لا سيّما في ظلّ ضخّ مستمر للبنك المركزي في السوق اللبناني بأوجه وأشكال مختلفة.
أمّا من يتحكم بسعر صرف الدولار ويرفعه؟ فهناك وجهات وجبهات عديدة تقبع خلف هذه العمليّة المدبّرة، لعلّ أبرزها أكثرها غموضا، هي التطبيقات الوهميّة التي تنشر سعر الصرف عبر الهواتف الخلوية، والحديث يدور هنا حول أياد سياسيّة تتحكم بهذه الإفتراضات، إضافة إلى عوامل أخرى مساهمة بدورها، منها مؤخرا إضراب المصارف.
يقسّم الخبير المالي والإقتصادي الدكتور عماد عكّوش في حديثه لـ «الديار» أسباب ارتفاع سعر الصرف إلى نوعين مادية ومعنوية:
– الأولى تتمثّل في تضخّم الكتلة النقدية المتداولة والتي وصلت بتاريخ 15 أيلول لحدود 45 ألف مليار ليرة، بزيادة حوالي 1500 مليار ليرة خلال 15 يوما، وشرح بأنّ هذه الكتلة دائما ما تبحث عن دولار لتشتريه، ما يزيد الطلب عليه بشكل دائم، كما لدينا عجز مستمر بالموازنة، فنفقات الدولة تزيد، بينما وارداتها على حالها وفق سعر 1507.5 ليرة، ومثله العجز السنوي في الكهرباء.
الثانية: تّتصل بالدرجة الأولى بحجم الثقة بالليرة اللبنانية المفقودة اليوم، بسبب فقدان الثقة بالسلطة السياسية التي لا تستطيع اتّخاذ أيّ قرار أو تصديق أيّ قانون أو إصدار أيّ خطة، وفقدان الثقة بالسلطة النقدية بسبب الإدارة السيئة لحاكم مصرف لبنان خلال رفع الفوائد والهندسات المالية وتثبيت سعر الصرف ودعم السلع، ومنصة صيرفة والتعاميم الكثيرة التي سببت أزمات كبيرة، والهيركات على أموال المودعين، ولاستقرار سعر صرف الدولار لا بدّ من إعادة الثقة بالعملة اللبنانية، من خلال إعادة الثقة بالسلطتين السياسية و النقدية وهذا مستحيل في هذه الظروف، ما يعني أنّه لا استقرار دائم لسعر الصرف.
لا يوافق عكّوش على فكرة أنّ رفع الدعم هو الذي أدى إلى مزيد من الطلب على الدولار، فلو أنّ حاكم مصرف لبنان رفع الدعم منذ بداية الأزمة وعوّم سعر الصرف، لما كنّا خسرنا حوالي 35 مليار دولار من النقد الأجنبي، كما أنّ المشكلة ليست برفع الدعم، فمعظم دول العالم ترفع الدعم عن سلعها، إنّما المشكلة في عدم إقرار الإصلاحات والقوانين والخطط التي يمكن أن تعيد الثقة للمواطن اللبناني بعملته واقتصاده، فالإبقاء على الدعم يستنزف البلد والمواطن وهذا ما حصل في كهرباء لبنان التي استمر دعمها لأكثر من 25 سنة ما أدى إلى تحميل الاقتصاد اللبناني حوالي 40 مليار دولار، ودعم السلع الغذائية فخسرنا حوالي 15 مليار دولار، وإطلاق منصة صيرفة وخسارة 4 مليار دولار حتى الآن.
ولفت عكوش إلى أنّ هذا الإستنزاف لاحتياطي العملات الصعبة هو مسبب أساسي في عملية ارتفاع سعر صرف الدولار لأنّه يؤدي لانعدام الثقة بالنظام النقدي والسلطة السياسية والإقتصاد اللبناني، وما يمكن فعله اليوم بالحدّ الأدنى هو العمل على الإستقرار الجزئي لسعر الصرف من خلال إقرار الموازنة بعد التعديلات على الرسوم لتمويل النفقات وإعادة تشغيل الإدارات العامة، وتفعيل الجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية والمستشفيات الحكومية، ووضع الخطط والمصادقة على مشاريع القوانين، لكن في ظلّ نظام سياسي معطّل لكلّ الإجراءات والإصلاحات سنبقى في عملية «المراوحة مكاننا»، وما يمكن فعله حاليا هو مجرد الترقيع في الإجرءات حتى نستمر.
للمتخصصة في الإقتصاد النقدي في البلدان المدولرة الدكتورة ليال منصور رأي مختلف، فاوضحت لـ «الديار» أنّ الدولار أساسا مرتفع، وكنّا نراه أقل (25 و30 ألف ليرة)، نظرا لتدخّل البنك المركزي من خلال التعاميم والإجراءات، والذي لعب دورا في الصغط على الدولار نزولا، لكن عندما «سحب المركزي يده» برفع الدعم عن كلّ شيء تباعا، وفتحت المدارس والجامعات وبدأت بطلب الدولارات للتسجيل وسواه، وغادر المغتربون، من الطبيعي أن «يأخذ الدولار راحته» أكثر ويعبّرعن سعره أكثر.
وكشفت بأنّ السيناريو اللبناني يدل أنّ الدولار سيظل يرتفع، وليس هناك مجالا لخفضه أو لجمه، إلّا من خلال إنتاج إقتصادي، ولكن: « كيف لنا أن ننتج والدولار يرتفع؟»، إلا إذا تم تغيير نظام سعر الصرف وفق ما يسمّى «currency board» او «الدولرة الشاملة»، وهذا هو الحل الوحيد.
من جهتها، تشير الباحثة في الشؤون الإقتصادية والماليّة الدكتورة فاطمة رحّال لـ «الديار» إلى أنّ انخفاض الدولار مؤقت ومرحلي، وأنّ اتجاهه العام تصاعدي منذ أن تخطّى عتبة 1500 ليرة، معيدة أسباب ارتفاعه إلى الفجوة بين العرض والطلب، وهدوءه بمراحل معينة إلى تدخلات مصرف لبنان الطرف المتحكم بمسألة عرض الدولار والعامل الأكثر تأثيرا، وهناك أسباب تتعلّق بالمضاربة والإستفادة من الفرق بين سعر الدولار في السوق السوداء والمنصة، وأخرى سياسية كاستحقاقات الحكومة ورئاسة الجمهورية وترسيم الحدود، فيما السبب الدائم هو أننا لم نفعل شيئا كي نغير هذا الواقع، بوضع خطط طويلة الأجل، لمدة 3 سنوات وما فوق، فقد تخطّينا هذا العدد من السنوات ولا نزال «مكانك راوح»، وفي حالة من التخبط.
برأي رحّال سيأخذ الدولار المنحى الطبيعي التصاعدي له، فخلال السنوات الماضية حينما بدأ يكسر حاجز 1500 ليرة، وبالرغم من تدخلات مصرف لبنان كان يأخذ مسارا تصاعديا بقفزات كبيرة فقد كان بالعشرينات منذ سنة، واليوم أصبح بالثلاثينات وما من شيء يمنع وصوله إلى الأربعينات أو الخمسينات وأرقام أعلى مع مرور الوقت، طالما لا تزال الأمور كما هي، وإذا لم يلجم من قبل مصرف لبنان فإنّه سيستمر بالتصاعد، خصوصا بعد انتهاء الموسم السياحي الذي كان سببا في صمود الليرة، فضلا عن دور التوقعات المرسومة من قبل اللبنانيين اتجاه أي تغيّرات بالدولار الجمركي أو من خلال رفع الدعم عن البنزين وبالتالي زيادة الطلب على الدولار، وزيادة شراء بضائع بشكل مسبق تحوطا لموضوع رفع الدولار الجمركي، وسيترجم الأثر النقدي لهذا الإرتفاع بمزيد من الضغط الإقتصادي والإجتماعي على اللبنانيين والمنشآت العامة، وزيادة الفقر والتآكل بالقدرة الشرائية وسحق الطبقة الفقيرة، واتساع الفجوة بين طبقات المجتمع، ومشاكل أمنية قد تظهر في الأفق.
وتجزم رحّال أنّ لا حل أو «عصا سحريا» حاليا، يمكن أن ينقذ لبنان مباشرة، فنحن لم نقدّم على مدار هذه السنوات حلولا لمشكلة الدولار والتضخم والنمو والناتج المحلي الذي انخفض بشكل هائل، متسائلة: أين السياسات المالية والمصرفية والنقدية؟ ومشدّدة على أنّ المشكلة بنيوية، اقتصادية، مالية، مصرفية، صحية، تربوية ونقدية، والحلول تبدأ بمعالجة كل ذلك، علما أنّها ستكون بطيئة، فالإنهيار عمره عشرات السنين، وركيزة ذلك الهدوء الأمني والسياسي وإعداد الخطط الإنقاذية والعمل على الهيكلية الإقتصادية السليمة بتقوية القطاعات المنتجة ، و التوصل إلى اتفاقات في مسألة الحدود البحرية والبرية ومع صندوق النقد الدولي.
خلاصة القول.. رغم أنّ إرتفاع الدولار الذي لامس عتبة الأربعين ألفا مؤخرا، شهد انخفاضا نتيجة تدخل «المركزي» كما العادة، إلّا أنّ مختلف المدراس النقدية والإقتصادية تؤكّد أنّ لا سقف يمكن أن يحدّد ويحدّ من جموح الدولار وجنونه، سوى المصرف المركزي الذي بدأ يدرس تدخّلاته بعناية مؤخرا، لا سيّما مع تلاشي دولاراته شيئا فشيئا، ليبقى المواطن ضحيّة ثالوث مصرف لبنان والمصارف والصيارفة، على أمل أن تشهد مخاضات الحكومة والرئاسة الأولى وترسيم الحدود البحرية ولادات سريعة ومن ثمّ إصلاحات قبل التبخّر الكلّي للإحتياطي «المركزي» من الدولارات.