لا يكاد يخلو عقد من الزمن من أزمة كبيرة تتهدّد الكيان اللبناني وتُنذر بخطر داهم قد يطال الاستقرار وربما الاستمرار في وجودية الدولة المُكمِّلة مئويتها الأولى بشق الأنفس. أراد صنّاع دستور الـ 90 تجنّب حالات الصدام بين مكونات الوطن الواحد المراد له ان يكون “وطناً نهائياً لجميع ابنائه”، وذلك من خلال نصوص حاكت في جانب منها التطورات، وتلمّست في الجانب الآخر خصوصية مكونات هذه الدولة. وقد شكّل شبح الفراغ في المؤسسات وتحديداً في الرئاسة الاولى، هاجسًا مواكبًا الاستحقاقات الدستورية، خصوصًا انّ كل مرحلة من مراحل هذا الفراغ اقترنت بمشروع حرب او فتنة. وبتلمّس التاريخ، المُختَلَف عليه بالطبع، نرى انّ الفراغ الرئاسي خيّم على البلاد لمرات اربع كانت الاولى في العام 1952 والاخيرة عام 2014.
اليوم، ومع اقتراب المِهَل الدستورية اللازمة لانتخاب رئيس جديد للبلاد خلفاً للعماد ميشال عون، وفي ظلّ التجاذبات الحادة والخطرة التي تعصف بالبلاد، عادت التساؤلات لتُطرح حول طريقة إمرار هذه المرحلة بأقل خسائر ممكنة، في حال تعذّر انتخاب رئيس جديد او حدوث طارئ ما.
لم تكن رئاسة الجمهورية اللبنانية في يوم من الايام بعيدة من النزاعات والأزمات الداخلية بأبعادها الخارجية، بل انّها كانت وربما ستبقى في جوهر النزاع، إن لناحية الصلاحيات والممارسة، او لجهة التحالفات والتفاهمات السياسية ذات البعد الدستوري، الامر الذي ظهر في التغيير الدستوري، حيث نُقل لبنان إلى جمهورية برلمانية يكون الحكم فيها للمؤسسات الجماعية، بعيداً من الحكم الفردي بأبعاده المناطقية والطائفية، فكانت مؤسسة مجلس الوزراء ونقل السلطة التنفيذية اليها بصريح نص المادة 17، محاولةً للارتقاء بالممارسة السياسية إلى مصاف الدول الرائدة في هذا المضمار.
ومع توقّع الفشل في انتخاب رئيس جديد للبلاد قبل 31 تشرين الاول المقبل ووجود حكومة تصريف اعمال، تعود الأزمة مجددًا، وذلك بطرح إشكالية بعمق سياسي ودستوري، متمثلة بتساؤل مفاده: هل يجوز إعمال نص المادة 62 من الدستور على حكومة تصريف الاعمال، أم انّ البلاد ستدخل في دوامة من الفراغ التنفيذي الكامل؟
انّ الإجابة عن هذا التساؤل – الإشكالية تحتاج إلى قراءة دستورية متأنية، وسياسية مسؤولة، بعيداً من المناكفات وفتاوى غبّ الطلب والصدامات التي لا تُحمد عقباها، وذلك انطلاقاً من المادة 62 من الدستور المعدّلة في “اتفاق الطائف”، والتي نصّت على انّه “في حال خلو سدّة الرئاسة لأي علّة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء”.
هذا النقاش يطرح ايضًا فكرة البحث في مدى “تصريف الاعمال” المنصوص عنه في الدستور، وكيف تتعامل معه الحكومة المستقيلة في ما خصّ اعمالها الاصيلة او تلك الموكلة اليها.
نصّت المادة 64 من الدستور في فقرتها الاخيرة على أن “لا تمارس الحكومة صلاحياتها.. بعد استقالتها او اعتبارها مستقيلة الّا بالمعنى الضيّق لتصريف الاعمال”، حيث يطلب منها رئيس الجمهورية تصريف الاعمال في الفترة الفاصلة بين الاستقالة وتشكيل حكومة جديدة، وليس مجرد تكليف رئيس جديد لتشكيل الحكومة.
من البديهي انّ فكرة تصريف الاعمال تجد جذورها في صلب مفهوم الاستمرارية وتجنّب مخاطر الفراغ، انطلاقاً من غياب المسؤولية السياسية للحكومة المستقيلة، كونها غير خاضعة لرقابة مجلس النواب وغير مسؤولة امامه، وفق ما اكّدته هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل في العام 2011. فالمعنى الضيّق لتصريف الاعمال ينطلق من التمييز بين الاعمال التصرفية الممنوعة على الحكومة المستقيلة، والاعمال غير التصرفية المباحة لها، كالقرارات اليومية المتعلقة بتسيير اعمال المواطنين والأعمال المفترض اجراؤها ضمن مِهَل محدّدة وصولاً إلى السماح لرئيس مجلس الوزراء المستقيل بتوقيع القوانين تأمينًا لسير العمل التشريعي وتجنّبًا لحدوث فراغ دستوري وفق ما حسمه المجلس الدستوري في العام 2005.
اما الأعمال التصرفية الممنوعة على هذه الحكومة فهي على سبيل المثال، إبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية، او ما يرتبط بالسياسة العليا للدولة، الّا انّه وبصريح الاجتهاد يمكن في بعض الحالات الطارئة او الظروف الاستثنائية المتعلقة بالنظام العام السماح للحكومة المستقيلة مباشرة بعض الاعمال التصرفية استناداً إلى ما يُعرف بالمشروعية الاستثنائية.
بالعودة إلى المادة 62 من الدستور، نرى انّها أعطت مجلس الوزراء في حالة الفراغ تولّي صلاحيات الرئاسة الاولى “وكالةً”، بمعنى انّ ما يُعطى للوكيل لا يمكن ان يتجاوز ما يملكه الأصيل، وبالتالي فإنّ الخشية من مصادرة الصلاحيات وخلق أزمة طائفية في البلاد لا بدّ ان يكون مستبعداً، مع الاشارة إلى انّ السوابق الحاصلة في هذا المضمار أثارت هذه الاشكالية، سواء مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة او حكومة الرئيس تمام سلام، وقد جرت محاولات عدة لحصر الصلاحية في أضيق الحدود ولو بالتصويت بالنصف زائداً واحداً.
الدكتور وليد حدرج محامي وباحث دستوري