العميد أمين حطيط – البناء
في خطوة يبدو أنّ الغرب لم يكن يتوقعها قرّرت السلطات في جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك وفي مقاطعتي زاباروجيا وخيرسون، إجراء استفتاء شعبي حول الانضمام الى روسيا ومغادرة أوكرانيا، تماماً كما حدث في العام ٢٠١٤ في شبه جزيرة القرم حيث قاد الاستفتاء الذي نظم فيها انسلاخها عن أوكرانيا وانضمامها الى الاتحاد الروسي، ولم تنفع او تمنع كل المواقف الرافضة لذلك في وقف عملية الانضمام، بل سرعان ما قامت روسيا بكافة الإجراءات التي تجعل من شبه الجزيرة أرضاً روسيّة كما هي موسكو بالذات، كما انّ احتجاجات الغرب ورفضه للعملية لم يؤثرا على القرار الذي بات أمراً واقعاً لا رجعة عنه من قبل أطرافه المباشرين روسيا وشبه الجزيرة.
واليوم يتكرّر المشهد ذاته ويجري الاستفتاء على مدار ٤ أيام تنتهي يوم ٢٧/٩/٢٠٢٢، استفتاء تبدو نتيجته واضحة وتفيد بأنّ قرار سكان تلك المناطق الذين يناهز عددهم ٨ ملايين نسمة ويشغلون مساحة تتعدّى الـ ١٠٠ الف كلم٢ أيّ ما يقارب خمس الأراضي الأوكرانيّة، أنّ قرارهم كما يبدو الانضمام الى الاتحاد الروسيّ ليعودوا الى حضن الدولة الروسيّة الأمّ ومعظمهم من الروس، ويطمئنوا بذلك الى أمنهم الذي أفسده عليهم النازيّون بعد العام ٢٠١٤، عام الانقلاب الغربيّ الذي جاء الى الحكم بفئة معادية لروسيا والروس.
بيد أنّ الانضمام الذي نتحدث عنه لن يمرّ بسهولة وسلاسة خاصة أنه يجري في ظلّ أعمال عسكرية تشهدها معظم الأراضي المعنية بالضمّ التي تحوّلت اثر العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا والتي بدأت في ٢٤ شباط ٢٠٢٢ تحوّلت الي مسرح عمليات ومواجهة بين روسيا التي أطلقت العملية بشكل استباقي حماية لأمنها القومي ودفاعاً عن أمن الأوكرانيين من أصل روسي وبين الغرب بقيادة أميركا التي خططت لهذا المشهد من أجل جرّ روسيا الى حرب استنزاف تطيح بقدراتها وتسقط أحلامها في العودة الى المسرح الدوليّ وتمنع سعيها الى إقامة نظام عالمي تعدّدي تكون هي أحد أقطابه.
لقد أطلقت روسيا عمليتها الخاصة في أوكرانيا معتمدة استراتيجية الضغط للترويض من أجل دفع الخصم الى طاولة التفاوض الذي يفضي الى تحقيق الاحتياجات الأمنيّة لروسيا والروس على جانبي الحدود. ولم تكن في الذهن الروسي فكرة الاحتلال او اقتطاع الأرض وضمّها، ولذلك لم تستعمل من القوات العسكرية أكثر من ١٠٠ ألف عسكريّ من مختلف صنوف الأسلحة عملوا على جبهات طويلة في الشرق والجنوب وبخط تماس واشتباك يكاد يبلغ ١٠٠٠ كلم، وهي جبهة تحتاج لمسكها في حال اعتماد استراتيجية الاحتلال والضمّ الى ما لا يقلّ عن ٦٠٠ ألف عسكري في أقلّ تقدير، وكادت روسيا تحقق أهدافها عندما استجابت أوكرانيا لعملية الضغط وأرسلت مَن يفاوض الروس لتسوية الوضع لكن التدخل الأميركيّ أجهض المحاولة وعطّل المفاوضات وأعاد الجميع الى الميدان.
رغم ذلك استمرّت روسيا متمسكة باستراتيجيتها التي اعتمدت لعمليتها الخاصة مع بعض التعديل في وسائل الضغط خاصة الناري، لكن الدعم والمساعدات الغربيّة المتعددة الأنواع دفعت القيادة الأوكرانية للتشدّد والعمل على هزيمة الجيش الروسي في الميدان وإخراجه منه خالي الوفاض، ومع الوعود الغربية بتزويد كييف بأسلحة فتاكة ودقيقة قصيرة او متوسطة المدى لوّحت كييف باستهداف العمق الروسي إضافة الى المواجهة في جبهات القتال، وتنفيذاً لذلك قامت القوات الأوكرانيّة بعملية هجوم معاكس واسعة في شرق البلاد أدّت الى السيطرة على مساحة تتعدّى الـ ٣٠٠٠ كلم٢ في منطقة خاركييف وأعلن زيلينسكي في ختامها انّ قواته بلغت الحدود مع روسيا.
شكلت عملية استعادة السيطرة الأوكرانية على خاركييف نكسة للجيش الروسي في أوكرانيا كما أنها أكدت بأنّ استراتيجية الضغط العسكري للترويض من أجل التفاوض التي اعتمدتها روسيا منذ بدء عمليتها، أنها استراتيجية غير مجدية، وانّ الوضع بحاجة الى العمل بصيغة واستراتيجية أخرى تلائم الوضع المستجدّ والذي ازداد تعقيداً مع الإعلان الغربي عن تطوير تقديم المساعدات لأوكرانيا لتشمل الأسلحة النوعية الاستراتيجية والفتاكة كما وتفعيل الإمداد بالخبراء والمقاتلين من أجل تكرار عملية خاركييف مترافقاً مع تهديد علني او مبطن لروسيا في حال استعملت الأسلحة النووية، تكتية كانت او استراتيجية، تهديد تطلقه رغم علمها بأنّ روسيا ووفقاً لعقيدتها العسكرية التي تحدّد قواعد وأصول استعمال السلاح النووي، انها لن تقدم على ذلك في ظلّ المعطيات القائمة.
في مواجهة هذا الوضع وتعقيداته ولأنّ روسيا ترى بأنّ خسارتها في أوكرانيا إنْ وقعت لن تكون من طبيعة تكتية عابرة بل وبكلّ تأكيد ستكون من طبيعة استراتيجية وجودية ما يجعلها ملزمة بتحقيق الانتصار مهما ارتفع الثمن وكانت التضحيات والوسائل. من أجل ذلك قرّرت روسيا إعادة صياغة المشهد ومراجعة سلوكها وأدائها واستراتيجيتها في المواجهة فقرّرت التعبئة الجزئيّة التي تمكنها راهناً من استدعاء ٣٠٠ ألف عسكريّ من الاحتياط وقبول انضمام الجمهوريتين والمقاطعتين الأوكرانيتين التي نظمت استفتاء من أجل التمكين القانوني من هذا الضمّ عملاً بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلى ضوء هذه المتغيّرات سيُعاد رسم المشهد بين روسيا والغرب في أوكرانيا بشكل ينتج عنه ما يلي:
ـ تمكين روسيا من التوسع غرباً بضمّ مساحة شاسعة بعمق يتراوح بين ١٣٠ و١٧٥ كلم وبجبهة تتراوح بين ٧٣٠ و٩٠٠ كلم وجعل هذه المنطقة أرضاً روسيّة يجيز الدفاع عنها استعمال الأسلحة النووية بنوعيها التكتي والاستراتيجي ما يُعتبر تطوراً تاريخياً في الصراعات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية.
ـ رسم خط تماس ودفاع عن المناطق التي ضمّت وعلى طول الجبهة بطول يصل الى ١٠٠٠ كلم، وتدعيم خط التماس هذا بنشر ما يقارب من ٤٠٠ ألف جندي عليه في مرحلة أولى، وهذا ما استوجب التعبئة الجزئيّة في الأسبوع الماضي، القرار الذي نرى أنه سيتبعه قرار آخر يرفع العدد الى ٥٠٠ ألف عسكري لحاجة الميدان وضرورات الدفاع عنها لمنع تكرار الإخفاق في منطقة خاركييف.
ـ الانتقال الى استراتيجية جديدة تتخطّى مجرد الضغط للتفاوض، الى استراتيجية كسر الإرادة وفرض الإذعان للتسليم بالأمر الواقع بعد ضمّ المناطق الأربع وهو أمر لا يمكن ان يحصل إلا بعد انتصار روسي واضح في الميدان.
ـ الاستعداد الروسي لمواجهة الغرب بكلّ الأسلحة والوسائل التي تمكّن روسيا من الانتصار بعد أن باتت على يقين بأنها لا تقاتل أوكرانيا فحسب بل تقاتل الغرب على أرض أوكرانيا، استعداداً يعطف على البند ١ أعلاه ما يعني انّ احتمالات الحرب العالميّة الشاملة ترتفع بشكل ينذر جدياً بإمكان وقوعها إذا أصرّ الغرب على هزيمة روسيا التي يرى رئيسها بوتين بأن «لا حاجة للكرة الأرضيّة إنْ لم تكن فيها روسيا القوية».