كتبت النهار
لعلها اغرب “طقوس” الديموقراطية الطارئة على الديموقراطية العريقة التي مر لبنان بحقبات متألقة منها ان نسلم كلبنانيين بان جلسات انتخاب رئيس الجمهورية باتت منذ فرض “التوافقية” القسرية بفعل قوة السلاح والخلل في التوازنات الداخلية هيكلا شكليا للانتظار او الشغور . كان يفترض ان نحتفي بالأمس بتلك الديموقراطية العائدة بعد ستة أعوام عجاف ذقنا ونتذوق ونرغم على التذوق يوميا مرها اللاذع فيما لم ننس بعد ان العهد الحالي المشارف على الأفول حط رحاله آنذاك بفعل فراغ قسري فرضه تحالف التعطيل . ظن بَعضُنَا ، بسذاجة وقهر الملهوف صاحب المعاناة ، بان مجرد انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الجديد يجب ان تعني تجديد الممارسة الديموقراطية والاحتكام الخالص للأصول والمضي نحو طي أسوأ ما انتهكت به ديموقراطية لبنان بممارسات القهر المستقوي بأعراف استندت الى اهداف تقويضية للدستور والنظام ليس عبر حقبة الوصاية السورية فقط ، وانما الأخطر بعدها بايدي لبنانية خالصة .
ولكن ها نحن امام ما نخشاه اكثر من تحول ديموقراطيتنا الى طقوس شكلية ، أي تعبيد الطريق بكل ما يلزم لإحداث الشغور الرئاسي مجددا ما دام متعذرا على القوى المعارضة او التغييرية او المناوئة لمحور الهيمنة على لبنان ان تقلب الطاولة بتوفير كامل الظروف الانتخابية للإتيان برئيس ينقذ مع لبنان نظامه واصول ديموقراطيته ويعيدها الى زمن التألق . نكاد نعاين في الديموقراطية الباهتة هذه ، التي نجبر على تجرع كأسها في كل استحقاق انتخابي او تشريعي او رقابي او حكومي ، الانقلاب المتدحرج الأخطر الذي يرمي أصحابه الى تجويف النظام اللبناني ليس بمعنى النظام الدستوري وحده وفقط وانما على مستوى فرض سلوكيات بالقوة القاهرة تحت صورة مخادعة اسمها التوافق الذي تفرض كفة القوة فيه كل شروطها . منذ ذاك المشؤوم المسمى اتفاق الدوحة ، تجاوزت سلوكيات الفرض بالقوة القسرية كل الحدود . وما ان مر عهد الرئيس ميشال سليمان حتى انفجرت غطرسة الاستقواء “العملاني والميداني” على الدستور والانتظام الدوري في التناوب على السلطة بأقصى الوجوه والأساليب اذ كان فراغ السنتين والنصف سنة بمثابة السكين المسنونة التي غارت عميقا جدا في بقايا ديموقراطية عاندت طويلا للصمود ولكنها تلقت اشد الضربات القاصمة بفعل اخضاع الانتظام الدستوري لقوة القهر السياسي المستقوي بالسلاح . حين نجح اُسلوب الانقلاب بالفراغ المديد هذا بدأ لبنان يفقد جوهريا كل معالم الديموقراطية العريقة التي مرت له معها قصص ابداعات سابقا . يمكنك قول ما تشاء عن مرحلة ما قبل الحرب وعهودها لكن لا يمكنك التنكر لحقيقة ان رجالاتها ظلوا يضعون النظام والأصول الديموقراطية في مراتب الممنوعات التي أبقت الدولة في ظل “المارونية السياسية” افضل حقبات ما عرفه لبنان في تاريخه بما يعني ان تلك “المارونية” كانت ميثاقية وديموقراطية ودستورية بافضل المعايير . اما في الراهن من “تاريخنا” المجيد فها نحن نتوجس والأيدي على القلوب من ان تكون أولى جلسات الاستحقاق الرئاسي البارحة ،ومع الامل الضئيل جدا في ان تكذبنا الأيام المتبقية من ولاية هذا العهد المجيد ، بداية مناورات مكشوفة سافرة رخيصة استفزازية للبلوغ بنا الى تكرار تجربة الشغور والفراغ وتاليا الانقضاض نهائيا هذه المرة على النظام والانتظام الديموقراطي . لن يتحمل لبنان فراغا آخر تحت وطأة انهيار “تاريخي” لم يعرف مثله بلد في العالم . يتعين على اللبنانيين الادراك ان تجويف النظام صار في أخر حلقات المؤامرة .