تكوّنت الديمقراطية في كنف مجموعة من المبادئ، صاغتها افكار وآراء وكتابات لثوارِ فقه تُرجِمت على امتداد العصور بدساتير واعلانات أعلت من شأن الافراد ووضعت المجتمعات على سكك النهوض الدستوري والقانوني والمجتمعي.
كان مبدأ الفصل بين السلطات من ابرز هذه المبادئ والذي حاكه مونتيسكيو بكثير من الحنكة والحكمة، محاكياً تطورات مجتمعية ارادت الانتقال بالمجتمعات من الفوضوية الى نهج المؤسساتية.
مع تقدم الفكر القانوني وتطور المجتمعات استطاع هذا المبدأ احتلال مركز الصدارة في تكوين الدساتير بل والدول الساعية الى التقدم الفكري، فتمحورت الانظمة الدستورية ودارت حول مدى الفصل بين السلطات او ذوبانها ببعضها البعض.
اختار لبنان النظام البرلماني القائم على الفصل المرن بين السلطات والمشبّع بروح التعاون ، واكدت النصوص الدستورية على هذا الامر لا سيما في التعديلات الاخيرة والتي أسست الجمهورية الوارثة لجمهورية الاستقلال، معتبرةً ان البرلمان أو مجلس النواب هو نقطة الارتكاز والسلطة الاولى في نظامنا البرلماني وحافظةً له اختصاصات تشريعية ومالية وسياسية .
اليوم وبعد انقضاء عقود ثلاثة على التعديل الدستوري الكبير ودخولنا نادي البرلمانية، عادت لتطفو على سطح الجدال بعض الاشكاليات والتي تطل برأسها عند كل استحقاق سياسي او دستوري.
احدى هذه النقاط كانت المدى المعطى لمجلس النواب في الفترة الممتدة بين الجلسة الاولى لانتخاب رئيس الجمهورية واليوم الفعلي لانتخابه ، وقد كان مرد هذا التساؤل هو صريح نص المادة 75 من الدستور والتي قالت ان “المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة او أي عمل آخر”.
هذه الاشكالية قد تجد طريقها للحل اذا ما التأم البرلمان في المهل الدستورية ونجح بانتخاب رئيس جديد، اما وقد اعتاد اللبنانيون على اطالة أمد الفراغ وووصول عدد المحاولات البرلمانية لانتخاب رئيس للجمهورية الى 46 محاولة كما في المرة الاخيرة، فقد اضحى لزاماً حسم هذه الاشكالية والتصويب مباشرة على النقطة الجدلية ومعرفة الرأي النهائي.
اليوم ومع انفضاض عقد الجلسة الاولى المنعقدة في 29 ايلول المنصرم لانتخاب الرئيس دون نتيجة، طفا على السطح نقاش مستدام ذو وجهين سياسي ودستوري ، فالبعض رأى ان المجلس النيابي ليس له بعد شروعه في انتخاب رئيس الجمهورية ان يقوم بأي عمل آخر وذلك حتى انتهاء هذه المهمة ، وبالطبع اخذ هذا الرأي بعداً سياسياً من خلال السعي الى منع البرلمان من مناقشة البيان الوزاري –إن وُجد- او مناقشة الموازنة في حال ردها رئيس الجمهورية او حتى التشريع العادي، في حين يرى البعض الآخر ان لا تقييد لعمل المجلس التشريعي تحت أي ظرف كان.
باستعراض السوابق الدستورية لهذه الازمة وبالعودة الى ارشيف التصريحات والمواقف والممارسات نرى انه في العام 2014 اعتبر دولة رئيس مجلس النواب نبيه بري ان المجلس النيابي هو “أب وأم كل المؤسسات” ورأي في الامر “حقيقة دستورية جينية” لا يمكن القفز فوقها، رافضاً إقفال مجلس النواب وتعطيله مستعيناً بسابقات بدأت في العام 1945 ولم تنته قبيل اتفاق الدوحة الشهير، حيث استمر البرلمان في اداء مهامه الدستورية رغم غياب رئيس الجمهورية او حتى الشغور في سدة الرئاسة ، وخير دليل على ذلك إقرار اتفاق الطائف والتعديل الكبير للدستور اللبناني.
هذا الرأي دعمه رأي دستوري للعلامة الاستاذ حسن الرفاعي الذي اعتبر ان الجلسة التي ينعقد فيها المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية هي التي يُعتبر فيها المجلس هيئة ناخبة وليس هيئة مشترعة ، مضيفاً انه سواء تم الانتخاب أم لم يتم فإن رئيس المجلس بامكانه الدعوة الى جلسة تشريعية “وفوراً” ، مختتماً الرأي بعبارة ان “الدستور فوق الجميع”.
في هذا السياق وبالاطلالة على اجتهادات المجلس الدستوري نرى انه قد قرر في العام 2001 “ان سلطة التشريع هي سلطة اصيلة ومطلقة وقد حصرها الدستور بهيئة واحدة دون غيرها هي مجلس النواب، على ما جاء صراحة في المادة 16 من الدستور، وان هذه السلطة هي حق من حقوق السيادة والتي تستمد مصدرها وقوتها وشرعيتها من الشعب الذي يمارسها عبر المؤسسة التي تتولاها أي مجلس النواب وفقاً لما يستفاد من الفقرة د من مقدمة الدستور”.
من هنا ومن خلال كل ما ورد سواء باجتهادات المجلس الدستوري او بالآراء الفقهية المقدّرة والتي ذكرناها ، فإن مجلس النواب هو سيد نفسه وهو الأب الشرعي لكل المؤسسات وهو السلطة الاولى التي لا يجوز تقييد عملها التشريعي او حصره او تغييبه سيما ان فترات الفراغ قد تطول كما حصل في الدورة الرئاسية الاخيرة ، مع التأكيد على ان اعتبار المجلس الدستوري ان سلطة التشريع هي حق من حقوق السيادة الاصيلة والمطلقة يضع هذا الامر في اعلى المراتب الدستورية ولا يمكن تقييده او محاصرته.
لذلك فإن الرأي الدستوري الأنسب والأقرب للواقعية والمصلحة هو ان مجلس النواب تبقى له سلطة التشريع السيادية والمناقشة والممارسة الدستورية ضمن الفترات الفاصلة بين جلسات انتخاب رئيس للجمهورية ، اما ما ورد في نص المادة 75 من الدستور فهو محصور في ذات جلسة الانتخاب والتي يُعتبر فيها المجلس هيئة ناخبة وليس له سلطة التشريع ، فاذا ما انفضّت الجلسة لأي سبب كان عادت الحياة التشريعية للبرلمان الذي يملك سلطة المحاسبة والمناقشة للحكومة وسلطة التشريع والسن للقوانين وحتى اعادة مناقشة الموازنة العامة اذا ما كان من سبب لطرحها مجدداً عليه.
في الختام نرى ان الجدل الدستوري في لبنان على وجه الخصوص يأخذ منحى سياسياً احياناً وقانونياً في احيان اخرى ، لذلك فإن على مجلس النواب بوصفه السلطة الوحيدة المخولة تفسير الدستور ان يخصص جزءاً من جلساته لاقرار قوانين تفسيرية لبعض مواد الدستور قد تجنب البلاد مخاطر انشقاقات وانقسامات دفع الوطن ثمنها باهظاً ولا يزال.
الرئيسية / ابرز اخبار لبنان / سياسة / سلطة التشريع في زمن الانتخاب المحامي د. وليد حدرج – باحث دستوري
الوسوموليد حدرج
شاهد أيضاً
توقعات الابراج ليوم الخميس
الحمل مهنياً: يساعدك المخلصون على إحراز النجاح والأرباح في الاستثمارات إلاّ أنّ عليك التصرّف بجدّية. …