كتبت النهار
لا يحصل هذا كل يوم. اتفاق بين لبنان وإسرائيل في ذروة أوضاع داخلية لبنانية مأزومة وانهيارية وعند مشارف نهاية العهد العوني، وفي ذروة ازمة طاقة عالمية تصطك لتداعياتها ركاب أوروبا خصوصا، وفي ذروة “رعب” نووي حيال حرب مدمرة يقودها فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا. تتفجر الانفعالات اللبنانية حيال اتفاق الترسيم البحري هذا على نحو غرائبي ولو مبرراً تماماً لان اللبنانيين فقدوا أولا القدرة على التحكم بالمشاعر والحقائق بعدما تلقّوا في الأعوام الثلاثة الأخيرة موجات صدمات متعاقبة لم يتعرض لمثلها شعب في العالم، ولانهم لا يدركون واقعا التمييز بين “الهدايا” المسمومة والهدايا السليمة. سقط الاتفاق الترسيمي على اللبنانيين في نهايات عهد استنزف منهم الانفعالات الى مستويات قياسية بحيث صار التعامل مع “اتفاق مع إسرائيل” بدرجة لا توازي التعامل مع ازمة انهيار الليرة وفقدان الودائع الهائمة في خزائن المصارف او في قنوات الفساد الاجرامي الذي هرّب الودائع الى الخارج.
قد يمكنك الشك الخبيث او الحميد في أي جهة من جهات المنخرطين في الاتفاق لجهة القراءات التي تتوالى علينا بعد التوصل اليه وعشية ابرامه، فلكل شياطينه وملائكته. ولكن لا يمكن لوم شعب بكامله، يتخبط خبط عشواء امام تطور تاريخي نادر يشكله هذا الاتفاق ما دامت الكوارث امعنت ولا تزال تمعن فيه آثارها وارتداداتها وانعكاساتها الى حدود ضياع ادنى القدرات الموضوعية على التمييز بين ما يمكن ان يكون لمصلحته القريبة او البعيدة المدى وما يمكن ألا يكون سوى غيمة عابرة في فضاء ازماته.
من دون أي زيادة او نقصان، يخترق اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل جدار الواقع العدائي – الحربي الذي يحكم الامر الواقع القائم بينهما منذ اتفاق الهدنة في الاربعينات من القرن الماضي من دون ان يلغي مفاعيله ولا يمس أيضا بواقع قائم منذ صدور القرار 1701 عام 2006 المستمر حتى الساعة وما دام يسري التجديد سنة فسنة لقوة “اليونيفيل”. انه نذير حقبة جديدة متغيرة ابتدعتها الديبلوماسية الأميركية التي اعادت دخولها الى الشرق الأوسط بعد انكفاء ملحوظ من البوابة الأشد لمعانا ونجومية. لا يمكن بعد اليوم لغلاة العقائديين في أي موقع كانوا ان يتمادوا في اظهار عداء مستحكم لـ”اميركا” فيما صارت الولايات المتحدة بإرادة الشرعية اللبنانية مؤيدة بـ”حزب الله” الوسيطة والمرجعية المباشرة التي يسلّم بها لبنان للاتفاق الترسيمي مع إسرائيل بكل مندرجاته. يصحّ ان الاتفاق لا يرقى الى مستوى معاهدة تطبيع مع إسرائيل على غرار اتفاقات التطبيع التي سبق ابرامها بين إسرائيل ودول عربية وخليجية بوساطات أميركية دوما، ولكن يصعب بعد الآن حجب التساؤلات المنهمرة، عن حق او عن تشكيك او عن شماتة او عن غضب، حيال معنى ان تبرم الدولة اللبنانية اتفاقا “مواربا” مع اسرائيل عن طريق الولايات المتحدة ولا يعدّ اعترافا بإسرائيل او اقله خطوة استثنائية كبيرة نحو الاعتراف بها. ان أسوأ ما يمكن ان تصدّ به هذه التساؤلات المشروعة هو الصمت المريب او النفي الانفعالي الفاضح او المزيد من الابتهاج السطحي لدى الزاعمين بانهم طوّعوا العدو والدولة الأقوى في العالم بما يزيد الشكوك في الاتفاق ومَن وما وراءه. لماذا لا تعترفون بالانخراط في بداية عملية “عقلنة” تنظيم نزاع المصالح الاقتصادية التي ستقود يوما الى الذي “لا يسمّى” سلماً؟!