كتبت النهار
أثارت تصرفات رئيس تركيا رجب طيب أردوغان وسياساته الإقليمية والدولية في السنوات القليلة الماضية، وخصوصاً بعد حرب روسيا على أوكرانيا، تساؤلات كثيرة في أوساط شعبه المؤيّدة له والمعارضة، أبرزها: هل يخدم التناقض في سياساته بلاده ويؤمّن مصالحها؟ هل يخدم مصلحته هو بالتحديد وأهمها إعادة انتخابه رئيساً لبلاده في الموعد الدستوري لهذا الإستحقاق العام المقبل؟ ألا يتسبّب هذا التناقض وما رافقه ولا يزال يرافقه من “لعب على الحبال” إذا جاز استعمال هذا التعبير بإيقاعه في مشاكل كثيرة تخربط تحالفاته المتناقضة وتتسبّب له كما لبلاده بأضرار بالغة لا يمكن الشفاء من آثارها بسهولة؟
هذا الموضوع مع الأسئلة التي ترافقه كان مدار بحث في مركز أبحاث أميركي بالغ الجدية ومعروف بتغطيته الواسعة والدقيقة لمعظم المشكلات المهمة بل الخطيرة في العالم بقاراته الخمس وبمعسكراته السياسية المتناقضة. قد يكون مفيداً للبنانيين كما للدول العربية وغير العربية المجاورة لها الإطلاع على نتيجة هذا البحث لأن انعكاسات السياسة الأردوغانية بتناقضاتها الكثيرة قد ترتد سلباً على هؤلاء كلهم أو على البعض منهم وعلى مصالحهم طبعاً.
ماذا في البحث المشار إليه؟ فيه أن تركيا ومنذ بداية غزو روسيا لأوكرانيا إنتهجت سياسةً متوازنة وحاولت استعمال نفوذها لتسهيل الإتصالات بين الدولتين المذكورتين. فالرئيس أردوغان سعى ومنذ سنوات الى إبقاء إحدى قدميه في حلف شمال الأطلسي والى وضع الأخرى في المعسكر الروسي. وقد أكد هذه المقاربة قبول تركيا في حزيران 2019 عرض روسيا بيعها منظومة دفاع جوي متطوّرة “أس 400”. لكنّ التهديدات التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أيلول الماضي وإقدامه على تعبئة قواته العسكرية وتحريكها وتلميحه الى احتمال استعماله أسلحة نووية والمعطوفة على الأولويات الإنتخابية لأردوغان جعلت من الصعوبة بمكان التكهّن بل التنبّؤ بالسياسة الخارجية لتركيا.
وفي البحث أيضاً أن أردوغان بدأ يواجه منذ أشهر قليلة مشكلات إقتصادية في بلاده واستطلاعات رأي لم تكن نتائجها في مصلحته بقوة كما كانت في السابق. فنفّذ سياسة “الإلتفاف حول العالم” وحرّك الشعور الوطني في معسكره السياسي لتحييد أخصامه ومعارضيه. بدأت وسائل إعلامه المتنوّعة إبراز دوره صانع سلام ورعايته مع الأمين العام للأمم المتحدة صفقة الحبوب بين روسيا وأوكرانيا. وخلف هذه السياسة تابعت تركيا تسليم مسيّرات “بيرقدار” التي تصنّعها الى أوكرانيا وتلافت تنفيذ العقوبات الغربية على روسيا، وقبِلت تحويلات مالية من مؤسسات روسية، وأجرت صفقات مالية مع شركات نفطية روسية لتخفيف مشكلاتها المالية. في الوقت نفسه كان أردوغان يهتم وبعناية بصورته الدولية. فبنى على صفقة الحبوب وحضر قمة “منظمة شانغهاي للتعاون” في سمرقند رغم أنه دُعي إليها بصفته “شريك حوار” لا عضواً فيها. رغم ذلك كله شحُبَت صورته الى حد ما بغيابه عن مأتم الملكة البريطانية الراحلة الذي لم يُدعَ إليه بوتين وبإخفاقه في الإجتماع بالرئيس الأميركي جو بايدن في الأمم المتحدة أخيراً.
وفي البحث ثالثاً أن الوضع على الصعيد الدولي ساء وعلى نحو قوي جداً جرّاء التعبئة الجزئية التي أعلنها بوتين في 21 أيلول الماضي، وإعلانه احتمال ضمّه أراضٍ أوكرانية أخرى، وتهديده باستعمال أسلحة الدمار الشامل. دفع ذلك الدول الغربية الى إدانة روسيا والجهر بدعم أوكرانيا. في هذه الأثناء واجهت سياسة بوتين إعتراضات غير متوقّعة من الإتحاد الإفريقي والصين والهند. الإستراتيجيا الجديدة للكرملين ليست أقل من تغييرٍ للعبة في الشؤون الدولية، إذ اعتبر بوتين بعد ضمّه أراضٍ أوكرانية في أعقاب استفتاءات غير جدّية ردود الفعل الدولية الشاجبة والمتوعدة أن الغرب يُعدّ للهجوم على روسيا. ونتيجة لمواقفه بدأت أميركا وحلفاؤها الأوروبيون و”الأطلسي” إعادة حساباتهم و”تنظيم” استراتيجياتهم، كما بدأت الصين والهند تكييف مواقفهما وسيكون على تركيا أن تراجع هي أيضاً سياساتها.
وفي البحث رابعاً أن تهديدات بوتين الجديدة تُنذر بسوء ولتركيا خصوصاً. فإذا قرّرت روسيا استخدام أسلحة نووية تكتية ضد أي عضو في “الأطلسي” ستجد أنقرة نفسها مضطرةً الى التقيّد بالمادة 5 من “قواعده” التي تعتبر أن الإعتداء على عضو هو اعتداء على الكل. وفي ذلك فرطٌ للسياسة التركية المتوازنة، علماً أن أنقرة تبقى تحت ضغط قاسٍ من الكرملين في مجالات “العسكر” والمال والسياحة والتجارة وحقول الطاقة. وهي تعتمد على بوتين لمتابعة تنفيذ إتفاق الحبوب أو لتعديله إذا دعت الظروف والضرورة الى ذلك. وازدياد تصلّب موسكو كان له أثر مباشر في أنقرة بحيث جعل الدور التوسّطي لأردوغان أكثر صعوبةً، إذ إن أي زعيم أوكراني أو غربي سيكون مستعداً للذهاب الى اسطنبول للبحث في وقف لإطلاق النار أو في الأمن أو في المفاعلات النووية عندما تكون أوكرانيا والغرب تحت تهديد أسلحة دمار شامل روسية. وقد أثار الموقف المهين للكرملين أسئلة حول تبجّح تركيا بقربها من بوتين.
وفي البحث خامساً كلامٌ عن التأثيرات على تركيا في المنطقة المركزية لها أي شرق المتوسط، وخصوصاً قبرص واليونان وإسرائيل ومصر ولبنان وليبيا وفلسطين وسوريا. التطورات في هذه المنطقة تبقى مهمة لتركيا لكن التهديدات الروسية الأخيرة نحّتها جانباً. وقلّص ذلك قدرة تركيا على ممارسة نفوذها وملاحقة مصالحها في محيطها.
في النهاية يخلص البحث الى الإشارة الى أن تركيا تواجه اليوم حقيقتين. فهي لا تزال تعتمد بقوة وكثافة على علاقات اقتصادية مع دول غربية وخصوصاً الإتحاد الأوروبي. وروسيا أو دول الخليج تستطيع فقط تقديم دعم مالي محدود لها. ومواقفها الحازمة والجازمة من قبرص واليونان أو سوريا أثارت اعتراضات المجتمع الغربي وروسيا. وفي هذا المجال يُشار الى أن رفض روسيا تنفيذ تركيا عملية عسكرية شمال سوريا كانت قرّرتها قبل أشهر دفعها الى بدء محادثات “مخابراتية” مع الأخيرة. وفي مواجهة وضع اقتصادي دراماتيكي داخل تركيا وتصاعد زخم تحالف المعارضة السياسية فيها وتصلّب مواقف بوتين قد يجد أردوغان نفسه مضطراً الى مراجعة تصرّفه السابق. وقد أظهر التاريخ أنه “براغماتي” أي عملي قادر على “التكويع الكامل” ( UTurn). في النهاية لا أحد يعرف كيف سيلعب أردوغان أوراقه في الأسابيع المقبلة لتأمين فوزه في انتخابات الرئاسة السنة المقبلة، لكن الشيء الثابت هو أن التكهن حول السياسة الخارجية لتركيا سيكون صعباً جداً.