كتبت النهار
ليس في الآتي من الأيام اللبنانية المأزومة ما يصدم استثنائياً في مسار من عقود مأزومة لو لم يكن لبنان مر ويمر وسيمر بمراحل متدحرجة من الانهيارات التي لا قعر لها. لذا، ولتصويب الحقائق فقط، ترانا نضطر الى إعادة صياغة مفهوم الفراغ الرئاسي العائد إلينا بحلته القديمة – الجديدة كمؤشر انحطاط وجفاف وتصحّر ديموقراطي يضرب بقايا البقايا من صورة مشرقة لما كان عليه لبنان يوماً في نظر العالم المتمدن.
لم يكن مسار الفراغات والأزمات الدستورية في لبنان إلا علامة طغيان “القبلية” السياسية – الطوائفية على الانتظام الدستوري الذي من أساساته الجوهرية قاعدة التناوب على السلطة حتى من ضمن ترتيب أو عرف بات في مستوى القاعدة الدستورية “والميثاقية” الذي يوزع الرئاسات الثلاث على الطوائف “الكبرى”. لا نظلم التاريخ اللبناني ولا نتستر على بعض وقائعه إن قلنا إنّ الاستحقاقات الرئاسية في لبنان هي صاحبة سمعة سيّئة ليس من الآن فقط بل قبل ذلك بكثير. تستحيل مقاربة المسار التاريخي للانتخابات الرئاسية من دون إقرانها بالنفوذات الخارجية التي كان لها الدور الحاسم في تقرير من سيكون الماروني المحظوظ الذي سيجلس ست سنوات على كرسيّ الرئاسة. لسوء الحظ أو لحسنه، لا ندري، اجتاحت هذه الآفة الكرسي الثاني بعد الطائف الى حدود تكريس رئاسة البرلمان لرئيس “تاريخي” واحد بعينه ومنع التناوب على السلطة منعاً قاطعاً. وأما الرئاسة الثالثة، فأصابوها بلعنة أسوأ إذ بات المعدل الوسطي لتشكيل الحكومات لا يقلّ عن عشرة أشهر الى سنة وصار لرؤساء الحكومات المتعاقبين شركاء مضاربون في التأليف والممارسة والتسلط على الصلاحيات.
ترانا إذن، ومن بوابة الدولة، أمام تفاقم مرضي غير قابل للشفاء في مفهوم سياسي – ثقافي – مفاهيمي – دستوري يستهين بالاستحقاقات ويسقط مفهوم الانتظام الدستوري ضمن المواعيد والمهل التي تُعدّ ألف باء الارتقاء الديموقراطي في الدول المدنية المتمدّنة التي حلّقت في فضاءات التطوّر فيما نحن نتقهقر تباعاً على نحو مذهل حزين وكئيب عن مواصفات وخصائص كانت لنا يوماً.
“تزحف” الدولة اللبنانية، بصورتها الرمزية كهيكل بقايا دولة، في الأيام القليلة الباقية على نهاية العهد العوني، الى استعادة أسوأ الأسوأ في ما سيُكتب وسيُسجّل عن هذه النهاية لجهة تتويج الانهيارات التي حصلت في زمنه بتوريث لبنان التجربة الجديدة من الفراغ الدستوري. سنخفف عن العهد هذه التبعة بالكامل لأن الموضوعية التاريخية تثبت أن فراغاً رئاسياً سيكون الخامس في أقل من قرن تشهده الجمهورية اللبنانية لا يمكن رمي تبعته على العهد الحالي وحده بل هي سمة قاتمة تلازم الضعف البنيوي السيادي للدولة من جهة وتبعات الطبقات السياسية المتعاقبة على السياسة والسلطة من جهة أخرى. ومع ذلك لا يمكن تجاوز الصدمة الحقيقية في التجربة الطالعة التي تتربّص بنا بعد نهاية تشرين الأول الحالي وهي أن الانهيار التاريخي “النادر” الذي لم يعرف العالم مثيلاً لشدّته منذ قرنين استطاع أن يخلق كل أصناف الوقائع القاهرة ومع ذلك “فشل” فشلاً ذريعاً في تطويع القبلية والجاهلية السياسية اللبنانية التي عادت تستسهل قتل النظام وقتل الانتظام واغتيال الدستور قضمة قضمة، والأسوأ من كل ما سبق الإمعان في تيئيس العالم من لبنان وتصدير صورته كنموذج لدول سحقت إمكانات تمدّنها الديموقراطي. لا جديد سيقبل في لبنان إلا الإمعان في جاهلية صارت ملازمة لدولة كانت تسمّى في زمن ازدهارها الآفل “سويسرا الشرق