كتبت النهار
خروج الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا لا يعني خروجه وتياره من الحياة السياسية تماماً كما لم يعن نفيه نيّته توقيع مرسوم استقالة الحكومة وفق ما روّج فريقه أنه لن يحارب ممارسة نجيب ميقاتي وحكومة تصريف الأعمال صلاحيات رئيس الجمهورية حين يذهب عون الى مقرّه في الرابية أو يحصر المواجهة التي سيخوضها بمركز ميرنا الشالوحي. بات واضحاً للجميع خلال ما يزيد على عقدين أو حتى ثلاثة عقود أن التيار العوني يعيش على افتعال الأزمات والصراعات مع الجميع وليس إيجاد حلول لها، فيما هو يخشى بقوة استضعافه سياسياً بعد فقدانه المنصّة التي شكلها قصر بعبدا خلال الأعوام الستة الماضية وفيما لا يزال حليفاً موثوقاً به لـ”حزب الله” وسيستمر خلال المرحلة المقبلة على الاقل.
ولكنّ ثمة تحولاً أساسياً سيحصل، وسيفرض دينامية مختلفة على الاقل ولا سيما أنه فيما لا يزال في السلطة لم يستطع الحصول على المطالب التي سعى إليها وخاصة في الآونة الأخيرة لأن خصومه لن يسمحوا لأنفسهم بإعطائه في سبعة أيام أخيرة من ولايته ما عجز عن أخذه خلال أربعة أو خمسة أشهر أخيرة، وتالياً فإن مطالبه لاحقاً لن تخرج عن إطار مطالب أي فريق موالٍ أو معارض ما لم يدعمه حليفه الشيعي من أجل تحصيلها. فالرهان الاساسي هو على تعطيل جلسات انتخاب رئيس للجمهورية لوقت طويل حتى إتاحة توافر ظروف تعيد تكرار تجربة انتخاب عون مع تسويات حتّمتها الظروف الجديدة من أجل إحياء فرص وصول صهره على رغم معرفته أن “لا” أساسية كبيرة صادرة في حقه محلياً كما عربياً وخليجياً في شكل محدّد وحتى أميركياً إذا اضطر الأمر.
ولذلك لا يتوقع كثر أن يتيح خروج عون من قصر بعبدا تسهيل الامور أو فتح شرايين البلد الى حد كبير في ظل اعتقاد باستمرار افتعال إشكاليات سياسية أو دستورية تمنع ذلك أو تحول دونه حتى لو بزخم أقل. ولكن ثمة رهانات قوية في المقابل على أن إقفال الأبواب بعد العهد العوني سيسمح بمتغيرات كبيرة لاعتبار كثيرين أن الأخير كان مسؤولاً في جزء كبير عمّا وصل إليه البلد من انهيار على كل الصعد واستخدم منصّة رئاسة الجمهورية لتعطيل المسار السياسي في البلد مراراً وتكراراً.
وثمة أسباب جوهرية للاعتقاد بحصول متغيّرات مهمة في ظل الاقتناع بأن البلد لا يحتمل طويلاً شغوراً رئاسياً وعجزاً حكومياً عن الاضطلاع عبر حكومة شرعية فاعلة بما هو مطلوب لانتشال لبنان من انهياره. فمن جهة بات واضحاً أن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل لم يعط ملامح تغيير إيجابية كان يُفترض أن تنعكس على الاقل وفق ما انعكس البيان الأخير للمصرف المركزي حول بيع الدولار من منصة صيرفة. ويقول خبراء دوليون إن البلد وإن تم إشغاله بمسائل سياسية كانتخاب رئيس للجمهورية أو الصراعات على الحصص في الحكومة، فإن ذلك لا يعني أنه لا يستمر في الانهيار ولو أن اللبنانيين أظهروا تكيّفهم مع الواقع الانهياري. ولكن الانهيار لم يتوقف بل يتواصل ولا يتحمّل لبنان انتظار استخراج الغاز في حال توافره بعد ست أو سبع سنوات فيما بيعه مسبقاً، كما سرت بعض اقتراحات الحلول، قد يكون مكلفاً جداً للبنان.
فحتى لو ثبت وجود الغاز، فإن نسبة المخاطر ستكون مرتفعة جداً لأن أي مستثمر محتمل سيطلب مردوداً عالياً جداً بحيث إن البيع المسبق سيحدّد سعر البيع من المشتري تحوّطاً للمخاطر المحتملة بدءاً من احتمال عدم وجود غاز بنسب تجارية وصولاً الى احتمال إصدار قوانين تؤمّم الثروة النفطية كما لجأت الى ذلك دول عدة في العالم حين واجهت أزمات تحشرها في الزاوية. فالمستثمر يطلب عائدات إضافية ترتفع بمقدار ارتفاع المخاطر، ما يعني ترتيب خيارات إضافية على لبنان.
وثمة عامل آخر يتصل بأن الدول الداعمة للبنان بما فيها الدول الخليجية التي عادة ما يعتمد عليها الغرب من أجل منح مساعدات كبيرة باتت ترفض أن تدفع أموال مكلفيها في دول تهدر هذه الأموال ولا تساعد الشعب. يضاف الى ذلك أن هذه العوامل كلها لا تعوّض أو تحل مكان ما يجب القيام به لمعالجة أو إصلاح الأمور الاقتصادية والمالية في البلد والمتمثلة في ما يعتبره البعض شروطاً من صندوق النقد الدولي فيما هي في الواقع الشروط الضرورية التي بات لبنان أحوج ما يكون إليها للخروج من الانهيار بإجماع الدول الصديقة والمنظمات أو المؤسسات الدولية على الأقل.
وعلى رغم هزلية جلسات انتخاب رئيس جديد للجمهورية والخفة لدى بعض النواب، ثمة خيط رفيع بدأ البعض يتلمّسه في المواقف على قاعدة الرغبة في التلاقي لانتخاب رئيس جديد على رغم السقوف المرتفعة. وهذا الخيط الرفيع يحاول أن يواكب بالحد الادنى جهداً خارجياً يُبذل وفق ما يلاحظ الجميع علماً بأنه قد ينجح وقد لا ينجح في المدى القريب بل يأخذ بعض الوقت لأن الأمر لا يقتصر على انتخاب رئيس جديد بل على بلورة مجموعة تفاهمات لا يمكن إلا أن تشكل صورة متكاملة لا يمكن أن ينطلق الرئيس الجديد من دونها. ولكنّ هناك أمرين مهمين أحدهما أن استمرار حكومة تصريف الأعمال وعدم إعادة بعثها في صيغة جديدة قد يسرع في انتخاب رئيس جديد. والأمر الآخر رهن بمهلة الصبر، هل ستكون لبضعة أسابيع أم لبضعة أشهر، والتي سيظهرها الخارج الراغب في عدم انحلال لبنان نتيجة المزيد من الانهيار والراغب بقوة في الانصراف الى همومه وأولوياته، لكي يضرب على الطاولة طالباً إنهاء لعبة التذاكي والاستنزاف القاتلة..