يغادر اليوم الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية منذ استقلال لبنان عام 1946، ميشال عون، الذي لم يكن وصوله الى قصر بعبدا عام 2016 سهلاً، اذ إنه جاء بعد حوالي سنتين من الفراغ الرئاسي وعدم توافق الاحزاب والأطراف اللبنانية على اسم محدّد. كذلك فإن مغادرته أيضاً ستعيد البلد الى دوامة الفراغ في ظل وضع اقتصادي ومالي ومعيشي أكثر تعقيداً من أي فترة سابقة في تاريخ لبنان الحديث.
ولد عون في حارة حريك، وانضمّ إلى الجيش في 1955، وترقّى في 1984 إلى مسؤولية قائد للجيش عام 1988، عيّنه رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل في نهاية ولايته رئيسًا لحكومة عسكرية إنتقالية بعد فشل مجلس النواب بانتخاب خلف له. واجه هذا القرار معارضة داخليّة وأدى إلى نشوء نزاع بين حكومتين، الأولى برئاسة عون وتحظى بدعم المسيحيين، والثانية برئاسة سليم الحص وتحظى بدعم المسلمين.
كان الرئيس عون من معارضي التواجد السوري في لبنان، وقد اختلف أيضاً مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في فترة الحرب الأهلية ووصلت الأمور الى حدّ الاشباكات الواسعة التي عرفت بما يسمى “حرب الإلغاء”. وفي 13 تشرين الاول /أكتوبر من العام 1990، اقتحمت القوات السورية مراكز عون في بيروت الشرقية والقصر الجمهوري، ثمّ انتهت بعدها الحرب الأهلية.
عون نائباً ورئيساً للتيار الوطني الحر
قصد عون السفارة الفرنسية في بيروت ثم انتقل إلى فرنسا بعد منحه اللجوء السياسي، وهناك أسّس التيار الوطني الحر. لكنه عاد الى لبنان في العام 2005 بعد انسحاب القوات السورية من بيروت، ليدخل الى الحياة السياسية نائباُ في البرلمان ورئيساً لكتلة “التغيير والاصلاح” التي حصلت في الانتخابات على 21 نائباً من أصل 128. وصرّح عون في حديث أخير أنه ” تقدم شخصياً بقانونين الأول عام 2006 لجهة دعم الشيخوخة” مضيفاً “لا ادري في أي درج من الادراج يقبع، والثاني عام 2013 ويتعلق بإنشاء محكمة خاصة بالاموال العامة المهدورة ولا يزال مجهول المصير، ما يعني ان هناك مقاطعة لكل قانون يطال المسؤولين الذين يمدون أيديهم الى الأموال العامة”.
العلاقة مع حزب الله: عون داعم للمقاومة
السادس من شهر شباط / فبراير من العام 2005 كان تحولاً مهماً في السياسة اللبنانية، ووثّق العلاقات بين التيار الوطني الحر وحزب الله اذ وقّع الطرفان ممثلان بالعون والأمين العام السيد حسن نصر الله ما عرف باتفاق مار مخايل نسبة لاسم الكنيسة التي وقع فيها في حارة حريك. حمل الاتفاق توافقاً بين الجانبين على أساسيات السياسة الداخلية والخارجية. ولطالما أوضح الطرفان أن العلاقات بُنيت على أسس متينة من الاحترام المتبادل والثقة والصداقة.
وقال السيد نصر الله في إحدى المناسبات “نحن متمسكون بالتفاهم مع التيار الوطني الحر وحاضرون لتطويره بما يحقق المصلحة الوطنية”، وفي السياق نفسه صرّح عون في حديث إعلامي أن “تفاهم مار مخايل هو تفاهم مجتمَعيْن لا زعيمَيْن، وأن “هذا التفاهم سيأخذ مداه مع الوقت خلافاً لما يعتقد كثيرون”، لافتاً الى أن”السياسة التي نتفق فيها مع حزب الله هي في الخيارات السياسية الاستراتيجية. وحول العلاقة بالسيد نصر الله شدّد عون: “لا نتكلم، لكن يفهم أحدنا على الآخر ع الطاير”. وقبل تركه قصر بعبدا بيوم واحد، قال عون إن العلاقة السيد نصر الله “مليئة بالمصارحة ولا غشّ فيها، والتضامن بيننا دائماً قائم في الظروف الصعبة، بما فيه مصلحة الوطن”.
بعد اغتيال رئيس الحكومة في 14 شباط / فبراير 2005 رفيق الحريري، انقسم البلد الى فريقين مختلفين في التوجهات، فريق 14 آذار الذي ضمّ حزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب اللبنانية وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وغيرها من الحركات والأحزاب. وحاول هذا الفريق تطبيق القرار 1559 الذي يقضي بنزع سلاح المقاومة.فيما بقي عون الى جانب فريق 8 آذار الذي تشكّل من التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل والحزب السوري القومي الإجتماعي وتيار المردة بالاضافة الى حركات وتيارات وأحزاب تدعم خيارات المقاومة.
اتخذت العلاقة بين حزب الله والتيار الوطني الحر واتفاق “مار مخايل” بعداً استراتيجياً الى جانب البعد الوطني، اذ كان موقف عون مؤيداً لحق المقاومة في الدفاع عن لبنان أمام العدوان الاسرائيلي في تموز / يوليو من العام 2006. فـ “التضامن كان ردة فعل طبيعية تقضي بأن يتضامن أي لبناني مع وطنه وأرضه وشعبه وأصدقائه عندما يتعرضون لاعتداء، فكيف إذا كان الأمر اعتداءً إسرائيلياً يستهدف ثلث الشعب اللبناني؟”. تلقى عون تهديدات من السفير الأمريكي في لبنان آنذاك جيفري فيلتمان تضغط عليه من أجل تغيير موقفه من حزب الله ومن أجل ” خفض الصوت الذي كان على ما يبدو يزعجهم كثيراً”، حسب ما كشف عون وردّ على فيلتمان بالقول “الآن وقت الحرب وسنحارب معه” ( أي مع حزب الله).
كذلك انضم عون وتياره الى جانب اعتصام الثنائي الوطني ( حزب الله وحركة أمل) لإسقاط رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة بين عامي 2006 و2008. وقد تحسنّت علاقاته مع سوريا التي زارها عون والتقى رئيسها بشار الأسد في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2008.
تقدّمت كتلة عون (التغيير والاصلاح) في حضورها السياسي ففازت بـ 27 مقعداً في مجلس النواب خلال انتخابات العام 2009. ومع انتشار الجماعات الارهابية في سوريا، لم يكن عون ممن أيدوا مشاركة حزب الله في سوريا لصدّ هذا العدوان لكنّ ذلك لم يغير من العلاقات بينه وبين الحزب، وسبق أن أوضح السيد نصر الله حول التحالف أنه “نحن حلفاء وكل واحد له حساباته، النقطة التي أودّ الوصول إليها هنا وهي في الحقيقة أريد أن أخاطب بها قواعد التيار وأيضاً جمهور المقاومة وليس قواعد حزب الله فقط…عندما نكون حلفاء لا يعني أننا أصبحنا واحداً، لو أصبحنا واحداً لا نعود حلفاء بل حزباً واحداً أو تيار واحد، نحن اثنان، حين نقول إثنين يعني ربّما ثقافتان مختلفتان، مشروعان ربّما في بعض الآفاق مختلفان، أدبيات مختلفة، رؤى مختلفة…ولكن يوجد تقاطعات كبيرة استراتيجية وتكتيكية ومرحلية بيننا”.
عون رئيساً للجمهورية
بعد فراغ رئاسي استمر من 23 نيسان 2014 حتى 31 تشرين الأول 2016، انتخب مجلس النواب عون رئيساً للجمهورية، لتبدأ مزاعم الأطراف الأخرى في البلد باتهام عون بأنه مرشح حزب الله واتخاذها كذريعة لمحاصرته وقطع الطريق أمامه وأمام مصالح البلد على حساب أجنداتهم الخاصة أو أجندات خارجية ولا سيما الأمريكية منها والسعودية.
طرأت خلال فترة ولاية الرئيس عون العديد من الأحداث كما الأزمات على الساحة اللبنانية:
أولاً، انتشار الجماعات المسلّحة التكفيرية والارهابية على الحدود اللبنانية والسورية وتقدّمها نحو القرى والبلدات البقاعية ولا سيما في عرسال. أعلن الجيش اللبناني، بقرار من الدولة اللبنانية، عن عملية “فجر الجرود” أواخر شهر آب / اغسطس من العام 2017، الى جانب المقاومة للتصدي لهذه الجماعات وحماية لبنان ومنع توغلها أكثر. أشرف الرئيس عون شخصياً على العملية واطلقها من غرفة عمليات قيادة الجيش في وزارة الدفاع اللبنانية. وقد توجّ تحرير الجرود المعادلة الذهبية التي أطلقها السيد نصر الله وهي “الجيش والشعب والمقاومة”.
ثانياً، شهد لبنان ما عرف بحراك 17 تشرين عام 2019، وهي مظاهرات استغلت الوضع الاقتصادي والظروف المعيشية الصعبة للشعب اللبناني لتحقيق أهداف من أدارها وارء الكواليس من سفارات في البلد. تركّزت هذه التحركات في الشوارع نحو استهداف عون وولايته ونادت بـ “اسقاط النظام”. وشنّت بعض الأطراف اللبنانية الحملات الإعلامية ضد الرئيس وتياره وحمّلته وحده، الى جانب سلاح المقاومة، مسؤولية انهيار البلد وقد وصل الأمر الى حدّ غياب الأخلاق والأدبيات في التعبير فتعرّض عون للشتائم والضغوطات الخارجية. لكنّ الرئيس صمد أمام هذه الموجات الممنهجة ورفض حرف مساره السياسي عن قناعاته داعياً الى الحوار بين جميع مكونات البلد. وقال في حديث أخير له أن ” حركة 17 تشرين كانت موجّهة ضدي وليس ضدّ الحكومة لأنّها استمرّت بعد استقالة الحكومة (حكومة الرئيس سعد الحريري) وكانوا يتّهموننا بأمور زوراً”.
ثالثاً، استمرت حملات تعطيل تأليف الحكومات خلال ولايته، اذ جرى التكليف لأكثر من شخصية لكنها لم تتمكن من تشكيل الحكومة، وحتى حين التشكيل كما حصل مع الرئيس السابق حسان دياب فإن حكومته لم تحظى بالمساحة المناسبة للتحرّك والعمل. وعاد البلد الى الفراغ الحكومي بعد دياب قبل تكليف الرئيس نجيب ميقاتي بالمنصب.
رابعاً، شهدت ولاية عون استحقاقين نيابيين، الاول عام 2018 حيث تعدّل قانون الانتخاب من الأكثري الى النسبي وحصل التيار الوطني الحر على كتلة كبيرة، هي الأكبر مسيحياً، وتكونت من 27 نائباً. وقد عملت الكتلة على طرح قوانين أهمها التدقيق الجنائي ورفع السرية المصرفية. وفي الاستحقاق الثاني عام 2022، وعلى الرغم من الحملات ضد عون والتيار، حافظت كتلة “لبنان القوي” على حضورها الواسع في البرلمان اللبناني وكسبت 22 مقعداً. وقال عون” منذ بداية العهد عملنا على إقرار مراسيم النفط وطرد الإرهابيين وفرض الاستقرار وإصلاح التمثيل الدبلوماسي في الدول وإقرار قانون جديد للانتخابات وتحسين الانتظام المالي بعد سنوات من الصرف من دون موازنة وغيرها الكثير من الأمور”.
عون وترسيم الحدود البحرية
ختم الرئيس عون ولايته بتوقيع “اتفاق” حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلّة بعد فترة من المفاوضات آخرها كانت مع “الوسيط” الأمريكي عاموس هوكشتاين، وكان الرئيس عون جزءً من “الصمود الرسمي” امام الضغوط الأمريكية وضغوط الاحتلال على لبنان للتنازل عن حقوق البلد النفطية والغازية. وإن الاعتراف بحق لبنان في البحر الأبيض المتوسط وحقه في استثمار هذه الثروات إنجاز “يُسجل هذا أنه في عهد فخامة الرئيس ميشال عون، لكن أن يُسجل هذا الإنجاز في عهد فخامة الرئيس ميشال عون، لا يجب أن يُلغي جهود الكل الذين تحملوا مسؤولية هذا الملف منذ البداية إلى النهاية”، حسب ما قال السيد نصر الله قبل يوم واحد من نهاية ولاية عون.
وحول دور المقاومة في الترسيم، شدّد عون على أن “ورقة المقاومة حسمت مفاوضات ترسيم الحدود… وساعدت في إلغاء التردد الذي كان سائداً”. وقال عون عشية انتهاء ولايته أن الملف الذي سيتبع الترسيم هو ملف عودة النازحين السوريين، فهو معروف بالمواقف المشجعة على عودتهم منذ سنوات والرافضة لأشكال توطينهم، وسبق أن قال “إذا كان الهدف توطين النازحين السوريين في لبنان، فإننا نرفض ذلك رفضا قاطعا كما رفضنا سابقا توطين الفلسطينيين على أرضنا”.
يسلّم عون اليوم قصرا بعبدا للفراغ الرئاسي وحكومي، اذ قال “الوضع بالنسبة لتأليف الحكومة صعب”. كما صرّح “قاموا بمحاربتنا طوال هذه الفترة” للتأكيد على أن أطرافاً لبنانية وخارجية حاكت الأزمات للبلد وإن أي “انفراجات” فور مغادرته قصر بعبدا ستؤكد ان “فشل العهد” كان مدبراً.
وختم عون تصريحاته الأخيرة كرئيس للجمهورية بالقول “اليوم تنتهي مرحلة لتبدأ مرحلة أخرى تحتاج لنضال وللكثير من العمل لكي نخرج من أزمتنا”.