كتبت النهار
بكثير من الغرابة يطرح بعض القوى السياسية على الجوانب المشتتة من مشهد الفراغ الرئاسي مسألة السقوط المبكر لمحاولة الرئيس نبيه بري تنظيم طاولة حوار كأنها صدمة للاستحقاق أكبر من صدمة الفراغ بذاتها. بل إن الرسم البياني لتداخل موضوع الحوار مع الاستحقاق بعد بدء مرحلة الفراغ يبدو كأنه يهدف الى تثبيت حتمية في الخلفية السياسية والإعلامية بأن ثمة مسلكاً واحداً لا سواه لإنهاء مبكر للفراغ يمر عبر “توافق حواري” وإلا فإن البديل هو الانتظار الطويل لمجهول التطورات الداخلية والخارجية التي لا أحد يدري متى موعد نضوجها لإعادة ملء كرسيّ قصر بعبدا الشاغر.
ما يثير الريبة المضاعفة في هذا المنحى أن اللبنانيين يتفرجون على بلدان العالم تتبارى في مبارزاتها الانتخابية المتزامنة مع حلول الفراغ حاكماً في لبنان ولا يعرفون ولا يتيقنون متى وكيف يمكن أن يعود لبنان بلداً طبيعياً تنتظم فيه الاستحقاقات الدستورية الديموقراطية من دون توسّل التعطيل القبلي القسري وسيلة إحداث لتوازنات سياسية مختلة دمّرت معالم ما كان يوماً بلد الديموقراطية النادرة في الشرق العربي.
ولعل أحداً لم يتنبّه الى الدلالات المعبّرة عن عمق التحوّلات الصادمة في هويّة لبنان وصورتها في كلمة “ممثل لبنان” في القمّة العربية الرئيس نجيب ميقاتي “مخبراً” القادة العرب بأن لبنان الشعلة انطفأ. كما أن بطريرك الموارنة من جهته، غداة شغور المنصب المسيحي الماروني الوحيد في العالم العربي، لم يحجم عن القول إنه صرف النظر عن كلمة في منتدى البحرين المواكب لزيارة مهمة جداً للبابا فرنسيس كان يزمع التحدّث فيها عن نموذجية لبنان في ظل ما أصابه وما يعانيه من أزمات.
ما بالكم لا تدركون معنى أن يبدأ نمط مختلف جديد من الخطاب الداخلي الموجّه نحو الخارج ينبئ العالم بنهاية ذاك اللبنان الذي لا يزال كثيرون لا يصدّقون “قتله” واستنحاره، إن لم يكن بالانهيار والإفقار والهجرة والتفريغ المنهجي لشباب لبنان فباغتيال الديموقراطية والنظام والقضاء على كل معالم التوهّج والتألق والإبداع فوق أرض هذا البلد الغائر في الكآبة؟ كلّ ما حول اللبنانيين يحفّز على الاحتكام للديموقراطية مهما حملت حتى من أكلاف، فيما لبنان يقبع مجدّداً أمام انسداد مرضي متعمّد يعيده الى أسوأ اختبارات وتجارب مجرّبة في التعطيل والفراغ وسَوق البلد الى المجهول. بطبيعة الحال، للديموقراطية الصرفة غرائبها بل وأكلافها. هذه إسرائيل المتباهية بديموقراطيتها تعيش اضطرابات سياسية قياسية مع خامس انتخابات في أقل من أربع سنوات، وتعيد تتويج اليمين المتطرّف بلا هوادة. هذه البرازيل التي يقال إن لنا فيها ثمانية ملايين منحدر من جذور لبنانية خاضت أغرب المبارزات بين رئيس سابق سُجن بقضايا الفساد ورئيس حاكم رمز للغرائبية اليمينية، وأعادت الأول الى الحكم. هذه الولايات المتحدة تتأهّب لإعادة الجمهوريين أكثرية قد تبدّل الكثير من اتّجاهات أميركا.
لئلّا يغدو “نعي” لبنان أمام العالم خطاب بلد ذاهب الى مجاهل الفراغ المديد، ثمّة ما هو أسهل وأبسط. فلماذا لا تطلقون العنان لمبارزات طاحنة متعدّدة المرشحين والقوى ولو ضمن بلوكات الأقليات التي يتوزّعها البرلمان الحالي؟ إن جميع النواب اللبنانيين الحاليين هم من نتاج قانون انتخابي أدّى الى نهاية الأكثرية والأقلية التقليدية وأدخل اللعبة في إطار الاضطراب الدائم. لا مكان للتوافق في هذا الواقع إلا قسراً من داخل أو خارج، وإلا فأطلقوا العنان للمبارزات