من يبحث عن صور الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات سيجد أنه التزم بالبزّة العسكرية الزيتية لباساً وبالكوفية الفلسطينية على الرأس، ومن يسأل عن حضوره في الشارع الفلسطيني سيعرف أن “أبو عمّار” كان الأب الروحي لشعبه ورمزاً لهم و”أبو المقاومة” منذ فترة الستينيات، لم تفارق صوره ورسماته جدران قطاع غّزة والضفة الغربية المحتلّة ومخيمات الشتات. لكنّ قراراً واحداً فقط جرّد عرفات من المعنى الحقيقي للبزّة التي صافح بها رئيس حكومة الاحتلال إسحاق رابين عام 1993 في البيت الأبيض في ظل ولاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون.
لم يلغِ اتفاق “أوسلو”، الذي تنازل فيه عرفات عن 78% من مساحة فلسطين المحتلّة مقابل حكم ذاتي فلسطيني على غزّة وأريحا عملياً (1.5% فقط من مساحة فلسطين بعد أن نقض الاحتلال بنود الاتفاق ولم ينسحب من الضفة الغربية)، العهد الأول للرجل الذي حاول استعادته في العام 2000 و”تفجير” انتفاضة شعبية.
فما هي سيرة ياسر عرفات التي جمعت بين نهجين متناقضين (المقاومة والتسوية) وحملت الساحة الفلسطينية نحو تأثيرات وأبعاد لا يمكن لها أن تنفصل عنها الى اليوم؟
هو في الحقيقة، محمد عبد الرحمن عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني، يُعرف أنه من مواليد القاهرة عام 1929 حيث قضى فترة شبابه الأولى واكتسب اللهجة المصرية. ذهب الى القدس عند وفاة والدته لكنه عاد الى مصر في العام 1937.
التحق بجامعة “الملك فؤاد” (جامعة “القاهرة” حالياً) لدراسة الهندسة المدنية. واهتم الشؤون السياسية، فشارك في المظاهرات المناهضة للاستعمار البريطاني في مصر. وحضر كثيراً من الندوات والنقاشات السياسية. كما انضم في شبابه إلى الحركة الوطنية الفلسطينية؛ من خلال التحاقه بـ “اتحاد طلاب فلسطين” عام 1944، الذي ترأسه، بين عامَي 1953 و1968.
عرفات في مرحلة المقاومة
يعتبر “أبو عمار” ممن عاصروا جيل القوميين الذين نهضوا لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي والعدوان على الشعوب العربية، وفي فترة الـ 1948 ترك الجامعة وذهب الى فلسطين وسعى للانضمام إلى الجيوش العربية للتصدي لكيان الاحتلال، وحارب مع “الفدائيين الفلسطينيين” (هي مجموعة عسكرية فلسطينية تشكلت من الشباب الذين هجروا من قراهم ونفذوا العمليات ضد الاحتلال في الداخل الفلسطيني). وشارك في تمرير الأسلحة والذخيرة من مصر إلى الثوار في فلسطين.
سافر عرفات عام 1954، على رأس وفد إلى العاصمة البلغارية صوفيا لحضور مهرجان رعاه الاتحاد الدولي للطلاب الفلسطينيين في جامعة القاهرة. وفي هذه الفترة، التفت عرفات الى أهمية الاتصال بمختلف القيادات الفلسطينية في أماكن وجودها، في إطار الأنشطة الطلابية للشباب الفلسطيني. فأسس “جمعية اتحاد الخريجين الفلسطينية”، وكانت صلة الوصل والاتصال بينهم وبين الفلسطينيين خارج مصر.
الا أنه في العام 1957، سافر عرفات الى الكويت حيث عمل مهندساً وفي بعض الأعمال التجارية. وفي نهاية ذلك العام، شارك في مؤتمر عقد في مدينة “براغ”، ارتدى فيه عرفات كوفية.
وفي تلك الفترة أيضاً، وتحديداً في العام 1959 بدأت تتبلور فكرة تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني، “فتح” مع القائدين الشهيدين خليل الوزير المعروف بـ “أبو جهاد” وصلاح خلف المعروف بـ “أبو إياد”. انطلقت فتح رسمياً مطلع كانون الثاني/ يناير عام 1965، إثر تنفيذها لأول عملية مسلحة، وحينها فجّر عناصرها نفقاً داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما أسفر عن إصابة جنديين إسرائيليين بجراح.
سعى عرفات الى تحشيد الدعم العربي لفتح والاعتراف بها، وأسس أول مكتب للحركة في الجزائر عام 1965 وقاد العديد من العمليات الفدائية ضد الاحتلال قبل عدوان1967 وبعده. وفي هذه الأثناء أُنشئت منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري في عام 1964 وقد انتخب عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عام 1969 والتي أعلنت أنها “الممثل الشرعي والوحيد” للشعب الفلسطيني.
من الأردن الى لبنان فتونس
تمركزت فتح وقواعدها على الحدود الأردنية بعد “النكسة”، وتكثّفت العمليات الفدائية داخل الأراضي الفلسطينية، لكنّ عرفات غادر الأردن عام 1971 بعد أحداث عرفت بـ “أيلول الأسود”. انتقل عرفات الى لبنان حيث أسس مقر قيادة فتح في العاصمة بيروت بالإضافة الى قواعد عسكرية في الجنوب اللبناني قرب الحدود مع فلسطين المحتلة. وفي العام 1982 اجتاح الاحتلال لبنان بذريعة ضرب المقاومة الفلسطينية. انسحبت فتح من لبنان عقب الاجتياح وغادر عرفات الى تونس.
أوسلو وسلسلة تسويات عرفات
بعد “مباحثات” بدأت منذ العام 1988، وفي العام نفسه ألقى عرفات خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أعلن فيه عن “تسوية سلمية شاملة بين أطراف الصراع العربي – الإسرائيلي، بما في ذلك دولة فلسطين وإسرائيل”. ليسلك عرفات طريق التسويات التي توّج باتفاق “أوسلو”. وفي هذا الاتفاق اعترف عرفات بوجود “إسرائيل”. وبعد عام، وقّع عرفات ورابين “اتفاق القاهرة” من أجل تنفيذ “الحكم الذاتي الفلسطيني” في غزة وأريحا. وعاد عرفات الى فلسطين المحتلّة بعد 27 عاماً كرئيس للسلطة الفلسطينية في العام 1994 بعد “اتفاق” آخر مع الاحتلال عرف بـ “اتفاقية طابا”.
كذلك عقد “اتفاق واي ريفر” بعد التوسّع الاستيطاني للاحتلال في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1998وقعه عرفات مع رئيس حكومة الاحتلال آنذاك بنيامين نتنياهو، وتبعه مباحثات “كامب ديفيد الثانية” في شهر يوليو/ تموز 2000 جمعت عرفات ورئيس حكومة الاحتلال آنذاك إيهود باراك والرئيس الأميركي بيل كلينتون القضايا العالقة مثل القدس والمستوطنات واللاجئين، لكن المباحثات فشلت وبل تبعها مقترحات أمريكية تضمنت التنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتحويل القدس إلى مدينة مفتوحة فيها “عاصمتان” واحدة للإسرائيليين والأخرى للفلسطينيين.
وفي حين كان ينصّ اتفاق “أوسلو” على انسحاب الاحتلال من الضفة الغربية المحتلّة خلال خمس سنوات، وأن تبدأ بعد ثلاثة سنوات من توقيعه “مفاوضات الوضع الدائم” التي خلالها التفاوض من أجل قضايا القدس المحتلّة والحكم فيها وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وتفكيك المستوطنات في الضفة وترتيبات أمنية”، وبعد نقض كل الاتفاقيات، ثبت فشل الخيار السلمي والسياسي والتسوية مع الاحتلال الذي لم يلتزم بأيّة بنود.
الانتفاضة الفلسطينية
بعد اقتحام رئيس حكومة الاحتلال آنذاك أرئيل شارون للمسجد الأقصى اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية والتي تصاعدت أحداثها خلال 5 سنوات، يُشار الى أنها قامت تحت غطاء من السلطة الفلسطينية ورئيسها عرفات الذي ساءت علاقته بالولايات المتحدة وحمّله الاحتلال مسؤولية الأحداث والتصعيد.
وفي آذار / مارس من العام 2002 حاصرت قوات الاحتلال مقر السلطة في رام الله ومنعت عرفات من مغادرة الأراضي الفلسطينية لحضور القمة العربية المنعقدة في العاصمة اللبنانية بيروت.
رحيل عرفات: بين المرض والاغتيال
في العام 2004، طرأ تدهور صحي على عرفات نقل إثره الى الأردن ثمّ الى فرنسا. وفي الحادي عشر من شهر تشرين الثاني / نوفمبر عام 2004 انتشرت أخبار عن وفاة عرفات، وقالت أوساط طبية فرنسية أن سبب الوفاة كان تكسّر صفائح الدم ونزيف في الدماغ لكنّ الاعتقاد لدى الأوساط الفلسطينية هو أن “موساد” الاحتلال دسّ السّم في طعام عرفات. وخصصت حركة فتح لجنة للتحقيق بوفاته لكنها بعد 18 عاماً ” لم تتوصل لنتائج دقيقة وموضوعية وقاطعة في هذه المسألة” حسب ما قال اللواء توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، رئيس لجنة التحقيق في القضية. فبقي رحيله “لغزاً” في الساحة الفلسطينية.