اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية والتي باتت تعصف بمجمل العلاقات الدولية، نتيجة تناقض المصالح الاستراتيجية بين روسيا والغرب، وكما بات واضحًا تحولت إلى شرارة لتفاقم الصراع بين الغرب وروسيا، وفيما وصلت الى عتبة التسعة أشهر، لم يظهر لها أفق واضح إلى الان، غير تأجيج التنافس بين القوى الكبرى في النظام الدولي، فلا الغرب انتصر ولا روسيا انهزمت.
وبخلاف توقعات معظم الخبراء، بإن الحرب لن تطول، فقد مرّ عليها أكثر من ثمانية أشهر، ولا تزال تتصاعد ألسنة اللهب ويسمع أزيز الرصاص، ولم تغلق فواهات المدافع، فالحرب مستمرة بلا هوادة، وربما الأوروبيون يرونها كما قال الجنرال والمفكر العسكري الروسي “كارل فون كلاوزفيتز”: “إن الحرب ليست سوى استمرار للسياسة، ولكن بوسائل أخرى”، لكن إلى الان لا نهاية للحرب ولا بوادر تؤشر على ذلك غير تصريحات بضرورة العمل الدبلوماسي لم تفض إلى أية نتيجة.
لقد تطورت الأزمة الأوكرانية، إلى أزمة عالمية، سيكون لها تداعياتها على مجمل النظام الدولي، وهي أخطر حرب حصلت بتأثيراتها العابرة للقارات منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن يتحمل ذلك دون شك، هو الغرب، الغرب الذي أشعل الحرب عبر تهديد الأمن القومي لروسيا، والغرب الذي جعل كييف تتخلى عن النهج التفاوضي لحل أزمتها مع موسكو، وبدأ بفتح خطوط إمدادات دعم إستراتيجي عسكري لأوكرانيا.
لقد قدّمت دول الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أنواعاً مختلفة من الأسلحة والذخائر، فضلاً عن دعم خبراء عسكريين غربيين ومرتزقة، كل ذلك من أجل تأجيج الصراع، ومحاولة كسر الإرادة الروسية وإلحاق الهزيمة بفلاديمير بوتين. فالغرب ينظر إلى الحرب الأوكرانية باعتبارها ساحة إضعاف للروس، ما جعلها تتحول إلى ساحة استنزاف بين الطرفين، من الصعب التكهن بنهايتها.
من ناحية أخرى، لم تقتصر هذه المواجهة على ساحة الحرب العسكرية، بل تمددت إلى الحرب الاقتصادية، التي بدأها الغرب عبر فرض العقوبات، وخروج كبريات الشركات الغربية من السوق الروسية، وتجميد الأرصدة الروسية، فيما ردت روسيا على ذلك بخطوات مضادة، أهمها تخفيض إمدادات الغاز للدول الأوروبية، والبحث عن أسواق بديلة للنفط الروسي كالصين والهند وغيرها وهو ما يثير حفيظة واشنطن ايضاً.
لكن مآلات هذه الحرب إلى الآن غير واضحة المعالم، ليس لصعوبة شرح تداعياتها، بل ربما لصعوبة رسم ما سيكون عليه مستقبل العلاقات الدولية، ولأن الأطراف لا تزال متصلبة على مواقفها، فروسيا لن توقف هذه الحرب، ولن تقبل بغير الانتصار، طالما أن الإمدادات العسكرية الغربية لأوكرانيا تجعل موسكو مصممة على الاستمرار في الحرب لمنع المخطط المرسوم لتهديد أمنها القومي، في مقابل تعزيز الغرب لطموح القيادة الأوكرانية بتحقيق انتصار ما، أو تحسين شروط التفاوض في المستقبل.
روسيا وتحطيم الناتو
وفي ظل هذا التجاذب الدولي الكبير، فإن روسيا لم تعد تفكر بمجرد الحصول على مكاسب محدودة في الحرب، إنما تتطلع إلى انهيار وحدة الناتو، وانقسام الأوروبيين على أنفسهم، وفي المقابل تعزز موسكو تحالفها مع الصين، خاصة بعد التوتر الحاد في العلاقات الأميركية-الصينية بسبب الخلاف حول مسألة تايوان، وبناء علاقات جيدة مع دول كالهند وإيران وتركيا والدول العربية النفطية، من أجل زعزعة الهيمنة الأميركية. لكن الأخيرة تراهن، في المقابل، على أن الخسائر المتزايدة في ساحة الحرب، والعقوبات المالية والاقتصادية، ستُضعف نظام بوتين، وتقوض قدرات روسيا، وتمنع إمدادات العون لها عبر حلفائها، وسلخ كل جيرانها عنها، ما يجعلها تضعف على مواصلة الحرب، وبالتالي خروجها ضعيفة، وتبذل جهوداً للحفاظ على الناتو وتوسيعه وزيادة قدراتها مقابل موسكو، كل ذلك يعني جعل روسيا خارج إطار التهديد الوجودي للهيمنة الأميركية.
تقويض الهيمنة الأميركية
كل ما تقدم، يجعلنا أمام مشهد لحلبة ملاكمة بين القوى الدولية، تزيد من تعقيدات علاقاتها، وتفاقم التجاذبات فيما بينها، وتزيد من فرص الانقضاض بين الأطراف، فموسكو وبكين يجدان أن الفرصة سانحة لتغيير النظام الدولي القائم على الاحادية، من خلال إضعاف الناتو، وتقويض الهيمنة الأميركية على الشأن الدولي، ولربما يكون طموحهما الاقل هو تأمين أمن قومي جيوستراتيجي في جوارهما، في أوكرانيا وتايوان، لا سيما وأن التغيير في الوقت الراهن لبنية النظام العالمي ليس بالأمر اليسير ودونه عقبات. فإن أي تغيير جدي، لن يحصل دون الذهاب نحو تحالف وثيق بين روسيا والصين لتحدي الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، ويبدو أن هذا الأمر إلى الآن بعيد المنال نسبياً بينهما، فبكين لا تريد الانخراط في صراعات أوروبية تاريخية قديمة ومعقدة بين روسيا والغرب. وعلى كل حال فإن المشهد الدولي العام يؤكد أن القوتين العظمتين لا يمكنهما الاستمرار بالخضوع لقواعد النظام الدولي القائم على الهيمنة الأميركية، وهو ما يدفعهما إلى توسيع مروحة علاقاتهما وتحالفاتهما، وعليها فإن المرجح وفق قراءتنا هو تصاعد حدة التنافس والتجاذب بين القوى العظمى ذات اليد الطولى في النظام الدولي.
الكاتب: د.علي مطر