حمود: في إطار متابعة آخر التطورات السياسية، الإقتصادية، المالية، النقدية، القضائية، الإجتماعية، المعيشية والصحية التي تعصف بلبنان منذ إنطلاق حراك ١٧ تشرين اول ٢٠١٩ ، والتي ادّت الى كشف المستور وإنكشاف حالة الإنهيار المريع والإفلاس شبه الكامل الذي شهده القطاع المصرفي في لبنان، وما تبعه من مُمارسات تعسفية-اجرامية بحقّ المودعين في المصارف اللبنانية، ومع إستمرار حالة الإنكار والمكابرة والمراوحة والمراوغة
التي اعتمدتها السلطتان التنفيذية والتشريعية في لبنان في محاولتهما للتهرّب من طرح
الحلول الجذرية للخروج من المأزق، وفي ظلّ سعيهما الحثيث للمناورة تلو المناورة بمعرض الاستجابة المزعومة للمطالب الإصلاحية التي اشترطها صندوق النقد الدولي للمضي في اي اتفاق مأمول.ولما كان مجلس النواب قد أقرّ في جلسته التي عُقدت بتاريخ 18 تشرين الأول 2022 مشروع القانون المُتعلّق بتعديل أحكام قانون ٣ أيلول ١٩٥٦ حول السرية المصرفية بصورة مثيرة للجدل تصل إلى درجة المطالبة بالطعن به امام المجلس الدستوري.
وفي إطار مواكبتنا الدائمة في ملتقى حوار وعطاء بلا حدود وفي جمعية ودائعنا حقّنا لقضية حقوق المودعين التي حملنا لواء الدفاع عنها منذ بداية الأزمة، بحيث نظمّنا سابقاً عدّة ندوات وورش عمل حول كيفية المحافظة على كل/ أو ما تبقّى من حقوق المودعين، وحول الآليات والسبل القانونية لإسترجاع الأموال المنهوبة والمُهرّبة والمُحوّلة قبل وبعد ١٧ تشرين اول ٢٠١٩، وذلك بمشاركة اهم الخبراء القانونيين والإقتصاديين المخضرمين. ومُتابعةً لآخر القرارات والخُطط الحكومية التي تُحاول بطُرق ملتوية قضم وتصفية حقوق المودعين تحت مُسميّات مختلفة، كان آخرها طرح “خطة التعافي الإقتصادي” و”مشروع التوازن والإنتظام المالي” اللذين اقرّتهما حكومة الرئيس ميقاتي من جهة اولى، ومتابعةً ايضاً ومن جهة ثانية لآخر التطوّرات التشريعية التي من المؤكد انعكاسها سلباعلى آليات وسبل مُكافحة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة والمهدورة والمُهرّبة ، سيما لجهة تداعياتها الخطيرة على حقوق جميع المُودعين داخل لبنان وخارجه، فقد قامت اللجنة الحقوقية القانونية-الأقتصادية-المالية في الملتقى ،في ضوء هذه المعطيات وتحت إشراف الخبير الدولي البروفسور فضل ضاهر بمساعدة فعّالة قيّمة من أمينة سر الملتقى والجمعية السيدة أميرة سكر، بفتح ملف التعديلات الأخيرة التي طالت قانون السرية المصرفية.
ولأن آراء العديد من الخبراء القانونيين والحقوققين تفاوت حول الصيغة الأخيرة التي أُعبرها البعض تطورا وإن منقوصاً مُقابل شبه إجماع على رفض ما تحتويه من نصوص وآليات معقدة وملتوية ومُلتبسة من شأنها تعطيل فعالية هذه التعديلات بشكلٍ كلي و / أو الحدّ من إمكانيات الإستفادة منها كما هو مُرتجى ومطلوب على المستويين الوطني والدولي، إن لجهة الشك حول نجاعة مكافحتها لكل ملفات الفساد، أم لجهة استحالة تطبيقها بالمدى المنظور!
وفي حين أن تطوير أية صيغة إصلاحية هادفة وطموحة يعكس بلا شكّ زخم الإرادات الوطنية التي ما انفكًت تضغط في سبيل الوصول الى الإصلاح الحقيقي بالتزامن مع الضغوط التي يقوم بها صندوق النقد الدولي منذ بداية المفاوضات مع الحكومة اللبنانية لإنجاز الإصلاحات الجذرية المُفيدة واللازمة لتعافي الاقتصاد اللبناني، يظهر انّ الإستمرار في وضع نصوص مُعقّدة ومُلتبسة من قِبل المُشرّع اللبناني يعكس مُمانعة شديدة من قوى برلمانية وازنة ضدّ إقرار هذه الإصلاحات والقوانين الأساسية للخروج من الأزمة وهذا ما يطرح علامات إستفهام هائلة حول النوايا الحقيقة لمعظم الكتل النيابية ومدى معاندتها وإنكارها لضرورات إقرار الإصلاحات المطلوبة، لأن ذلك يتعارض كلياً مع ما تعوّدت عليه في السابق من إفلات من الحساب وإستسهال نهب المال العام والسطو عليه وتحقيق العدالة والمساواة في معظم القضايا الشائكة المطروحة وطنياً.
ولأجل هذا الهدف ولتبيان مساوئ وإيجابيات هذا التعديل الأخير، ولمعرفة ما إذا كان يُلبّي فعلياً الأهداف السامية المطلوبة منه، ألا وهي أن يكون اللُبنَة او الحجر الأساسي لقوانين مكافحة الفساد لأن رفع السرية المصرفية هو احد الأعمدة الأساسية في هذا السياق، قمت بالتواصل مع مجموعة كبيرة من اهل الخبرة والإختصاصات المعنية لتقديم رؤية شاملة تلحظ كل ابعاد هذا القانون ومفاعيله المُتوقّعة في خطة الإصلاح الجذري المطلوب، خاصةً وانه يعتبر شرطاً اساسياً من شروط صندوق النقد الدولي في المفاوضات الجارية مع الحكومة اللبنانية بهدف التوصّل الى مساعدة لبنان في الخروج من ازمته العميقة والخطيرة. وسوف نحاول في هذه المطالعات نقل الأفكار ووجهات النظر المُتخصّصة حول هذا الموضوع لتشمل مجموعة كبيرة من المُحامين والقانونيبن وخبراء المال والاقتصاد وبعض النواب الحاليين والوزراء السابقين الذين كانوا / او ما زالوا معنين بملف مكافحة الفساد وبقضايا الإصلاح والإنقاذ الإقتصادي وبمختلف التشريعات التي تتعلق بكل هذه الملفات، واخيراً بعض الأعضاء السابقين او الحاليين في اللجان النيابية المُختصّة.
في هذا الجزء الأول من الملف سوف نعرض مداخلة دولة رئيس نائب الحكومة ووزير الصحة السابق، النائب الأستاذ غسان حاصباني الذي افادانا بالمداخلة التالية.
حاصباني:
علينا ان نؤكد على ضرورة رفع السرية المصرفية للأهداف الإصلاحية التالية : محاربه الفساد، مكافحه الإرهاب وتبييض الأموال، التحصيل الضريبي واعاده هيكله المصارف. وقد يكون هناك اهداف اخرى ايضاً ايجابيه. ولكن هذه هي الأهداف الأساسية التي كانت مرجوّة تحديداً من هذا القانون وضمن النقاشات مع صندوق النقد الدولي وضمن الحاجه الإصلاحية اللبنانية، اولاً حتى قبل النقاش مع صندوق النقد الدولي.
لكل هدف من هذه الأهداف مرجعيه مسؤوله عن تطبيقها وقانون خاص فيها يتيح ضمن ضوابط مُعيّنه رفع السرية المصرفية لتحقيق هذه الأهداف. لقد جاء التعديل الأخير لقانون رفع السرية المصرفية ليُؤّكد على هذه القوانين التي كانت موجوده ويُتيح حُسن تطبيقها ويرفع السرية المصرفية بشكلٍ مطلق عن كل الذين تولّوا منصب عام او جمعيات تتعاطى العمل السياسي او الاجتماعي، مُِرتبطة بأشخاص يتولّون موقع عام، وايضاً مع مفعول رجعي. لكن هناك ضوابط خارج هذا القانون تعتمد عليها البلدان التي لا يوجد فيها سريه مصرفيه، لكن لديها قوانين اخرى وضوابط اخرى تدعم وتحصّن المُودع من عمليات ابتزاز او تعدّي على الخصوصية. ورفع السرية المصرفية يُساهم ايجابياً بتحقيق كل هذه الاهداف. ولكن ايضاً لديه مخاطر على المُودع يجب ان يتفاداها، وخاصه في لبنان الذي لا يُوجد فيه قوانين او ضوابط تحمي المُودع والتي تشمل:
-اولاً التأكّد من وجود قضاء مُستقلّ لا يخضع للإملاءات السياسيه التي يمكن ان تستغلّ عدم وجود سريه مصرفيه للتركيز على اشخاص او افراد او مؤسسات بهدف اخضاعها او ابتزازها. هذه الأمور غير موجوده ابداً في دول غير لبنان ولكن قد تحدث في لبنان بسبب التركيبه اللبنانيه.
-ثانياً : وجود قانون يحمي البيانات الشخصيه بما فيها البيانات المصرفيه، كي لا تستخدم خارج النطاق المُتاح لكل جهة لإستخدامها. فالبلدان التي لا يوجد فيها سريه مصرفيه فيها قوانين صارمه لحمايه المعلومات الشخصيه.لبنان تقليدياً كان مُعتمداً على السريه المصرفيه لتحمي هذه المعلومات ولكن عند رفع السريه المصرفيه وعدم وجود قانون يحمي البيانات الشخصيه ويُعاقِب على نشرها بشكلٍ صارم، يُصبح هناك خطراً على هذه البيانات ان تُسرّب وان تُستعمل بالطريقه الخطأ.
-ثالثا: آليات تحمي المودع من مُمارسات فاسده من قبل مُوظّفين فاسدين قد يُسيئون إستعمال القانون بغرض الإبتزاز او اغراض اخرى. وايضاً هذا مُمكن ان يحصل في بلدان اخرى ولكن ضوابط منع الفساد ومهنيه العمل التي تتطبّق في بلدان اخرى قد لا تتطبّق على لبنان، لأننا مُتوقّعين من الموظفين الذين قاموا او شاركوا اساساً بعمليات فساد والايصال الى هذه الحاله- دون التعميم طبعاً على جميع الموظفين- ان يلتزموا بذلك وكيف سيكون ذلك؟! لكن قد يكون هناك بعض الموظفين الذين قد يلجئون الى ممارسات غير مهنية، او الى عمليات إبتزاز، وبوجود عدم قدره عند الدوله او عند القطاع العام على محاسبتهم في السابق وعدم وجود
ضمانات على محاسبتهم في المستقبل.. كل ذلك قد يفتح المجال لإساءة استعمال رفع السريه المصرفيه دون وجود هكذا ضمانات. فعلينا ان نُحصّن المواطن والمودع من هذا الموضوع ايضاً لحسن تطبيق القانون. فحتى في الأنظمه الإداريه السليمه التي لا يوجد فيها سريه مصرفيه يتمّ الإعتماد على مهنيه الموظفين وعلى قوانين صارمه لحمايه البيانات الشخصيه، طبعاً دون التعميم لا على القضاء ولا على الموظفين. ولكن ان وجدت ثغرات في هذا الموضوع قد تحدث او تؤدي الى خلل طويل عريض بتطبيق القانون. البعض من هذه الضوابط وُضعت بنصّ القانون من خلال مناقشته والتصويت عليه في الهيئه العامه. بغياب الظروف المُحصّنه، والحاجه المُلحّه لرفع السريه المصرفيه، وضيق الوقت اصبحت بعض التعديلات التي وُضعت داخل هذا القانون مانعاً دون ان تصل الى ضرب مفاعيله بتحقيق الاهداف الأساسيه المُرجاه منه. مثال : بإعاده هيكله المصارف يمكن الجهه المختصه بالحصول على المعلومات وعن الحسابات بالجمله (عدد كبير من الحسابات) لتحديد احجام الودائع بكل مصرف وتفاصيلها دون الحاجه لتحديد هذا الهدف من الحصول على بيانات مُفصّله لأشخاص بالجمله، وخاصه اذا كانت جهات مُحدّده او مؤسسات. وبغياب قانون اعاده هيكله المصارف لأنه لم يحضر بعد الى مجلس النواب ولم يُوضع النصّ النهائي له من قبل الحكومه والغموض حول آليات حمايه حقوق المُودعين يُصبح من الصعب تحديد هذه الجهات لحمايه بياناتها حسب الحاجه. لذلك تمّ وضع نصّ لحمايه هذه البيانات التي ستحصل عليها الجهات المُختصّه بالجمله. اضافه الى تحديد الجهات المُخوّله للكشف على تفاصيل الحسابات الشخصيه والآليات المُحدده بالقانون. هناك ايضاً نوع من عدم الثقه من
قبل البعض مثلاً بهيئه التحقيق الخاصه او لجنه المراقبه على المصارف واطراف اخرى ايضاً لا تثق بالقضاء لأنهم يعتبرون ان القضاء ليس له استقلاليه تامّه، وقد يكون هناك بعض القضاه الذين يمكن ان يخلّوا بإستعمال السلطه التي يملكونها او حتى موظفين في الادارات من المُولجين بالتحصيل الضريبي وفي جهات مُتعدده تثق بمكان دون آخر وآراء مُتضاربه حول هذا الموضوع. لذلك يجب اخضاع المعلومات التي سنحصل عليها بموجب هذا القانون من اية جهة كانت لأن لديها ضوابط تمنع استغلالها او نشرها. وهذا ما حصل في مجلس النواب من دون المسّ بمبدأ رفع السريه المصرفيه خاصه عن اولئك الذين يتعاطون بالشأن العام. فتمّ إضافه نص لحمايه المعلومات الشخصيه وهو ليس نصّاً مثالياً لأن ذلك يتطلّب قانون مُفصّل، ولكن ايضاً لا يمكن ان نعرقل رفع السريه المصرفيه لنتفق على قانون حمايه المعلومات الشخصيه، او قانون استقلاليه القضاء وقد تمّ تطبيقه.
لقد كان على مجلس النواب ان يجد حلول مقبوله دون ضرب مبدأ رفع السريه المصرفيه. وهو إذا ليس قانوناً مثالياً ولكن يفي بالغرض المطلوب لهذه المرحله الى ان تُوضع ضوابط مُحدّده ويتمّ تطويره في المستقبل.
د طلال حمود-مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود-رئيس جمعية ودائعنا حقّنا