كتبت النهار
ليس تعويضاً عن فراغ المنصب الأول في الدولة، ولا محاولة لمعالجة عقدة نقص صارت مستأصلة لدى طائفة صاحب المنصب لفرط ما تكرّرت تجارب الفراغ والشغور، ولا تخفيفاً من وطأة التداعيات الخطيرة المترتبة على النظام والانتظام في تداول السلطة… ليس كلّ هذا ما يستدعي التوقف عند الأخطر وهو أن الفراغ الرئاسي في تجربته الحالية الأخيرة يثبت فعلاً أن عدواه أشرس بكثير ممّا يتلاعب به المتلاعبون ومعطلو الاستحقاق. والحال أن الفراغ الثالث في ظل الطائف بدأ قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون بستة أشهر كاملة، أي مع إجراء الانتخابات النيابية بحيث تظهّرت بعدها حالة الانفصام القاتلة بين واقع انهياري مخيف ونتائج انتخابية لا تنطبق في معظمها على واقع منتفض وثائر ويائس.
الأشهر الفاصلة بين اعتبار الحكومة مستقيلة عقب الانتخابات وحلول موعد نهاية الولاية كانت كافية وحدها في منطق الوقائع السياسية والسلطوية وحتى في تمدّدها الى البعد الدستوري لتقول إن الفراغ تمدّد الى رئاسة الجمهورية كما الى الحكومة كما الى مجلس النواب بفعل الفشل التام في انتخاب رئيس ضمن المهلة الدستورية بعد هذا الطوفان الكارثي الذي يعيشه لبنان.
الآن بعد أقل من شهر على بدء الفراغ “رسمياً” أيّ فارق يشعر به اللبنانيون ما بين الأشهر الستة التي سبقت انتقال الرئيس عون الى الرابية والاسابيع التي تلت نهاية عهده؟ لا شيء. بماذا يستشعر اللبنانيون الفارق في وجود حكومة قبل وبعد نهاية الولاية؟ لا شيء. أيّ مهزلة هذه تمضي فيها المؤسسة التشريعية في عقد جلسات صورية يدأب رئيس البرلمان الأقدم في العالم عليها بما يزيد من مسخ الطبقة السياسية ومسخ المناصب والرئاسات؟ أيّ نظام يزعمون أنهم يلتزمون وهم فاقدو كل الشرعية والمشروعية ولو برّروا ذلك بأنهم “أبناء” شرعية تمثيلية عادت بهم وجدّدت التفويض لهم قبل ستة أشهر فقط؟ ثم أي فارق اليوم يتراءى للناس بين رئيس سابق للجمهورية “متقاعد” في دارته ورئيسين للمجلس والحكومة يتحركان صورياً، ووزراء يستغلون الفراغ لمزيد من الوجهنة الفارغة فقط، ونواب يثرثرون أمام الشاشات كل خميس وكل الأيام بلا نفع، وجمهورية بقضّها وقضيضها تقبع في الانتظار؟
هذا الواقع لا يعترف به أحد من مروحة عريضة من الطبقة السياسية وهو أن مشروعيتهم سقطت سقوطاً مبرماً يوم رفضوا الاعتراف بالوقائع الاجتماعية والسياسية التي استولدها الانهيار وراحوا يتباهون، في معظمهم، بأنهم هزموا “شراذم” الانتفاضة أو الثورة.
لم تعوّض الانتخابات النيابية ولا التسلط على المشهد السلطوي البائس بلوغاً الى التسبّب بالفراغ الرئاسي خدمة للأهداف المكشوفة للمعطلين، الفجوة الهائلة التي أصابت مقتلاً من كل السلطات والرئاسات والمسؤولين عقب انتقال لبنان من عالم الى عالم مختلف. سياسات الإنكار التي مارسها العهد الآفل وفريقه السياسي لا تقتصر عليه بل إن لدى الكثيرين من حلفائه وخصومه ما يوازيه راهناً وما يتجاوزه في الإنكار.
إن أفضل ما قيل على ألسنة قلة متبصّرة من نخب في الفترة الأخيرة، وبإزاء مهزلة جلسات الخميس، جلسات الضحك على الذقون، هو حضّ مجلس النواب على حلّ نفسه بنفسه والعودة الى الناس. قد يكون هذا الامر مستحيلاً ولكنه يكشف بوضوح تهاوي المشروعية المزعومة عن ممارسات وأداء كل من حكم ويحكم ومن رحل ومن بقي، وكأن انهيار لبنان “كذبة”!