كتبت النهار
استكمالاً لإبراز دوّامات الثرثرة العقيمة التي تحاصر اللبنانيين في يومياتهم وتعكس التخبّط الهائل غير المسبوق لثقافة سياسية عارمة في الهبوط، ترانا نتوقف تكراراً عند العشوائية التي تطبع المبارزات البهلوانية في مسألة الحوار المزعوم. فما دامت أزمة الفراغ الرئاسي رحلت الى السنة المقبلة بطبيعة حال الإفلاس السياسي الذي تتخبّط فيه الطبقة السياسية ماذا تسمّى حقيقة عشر جولات من محاولات فاشلة لانتخاب رئيس الجمهورية جمعت غالباً العدد الأكبر من النواب تحت قبّة البرلمان؟ في البعد الديموقراطي الصرف كان يمكن هذه الجلسات العشر وحدها أن تشكل أكبر منتدى عرفه لبنان للحوار لو اتُّبعت فعلاً الأصول الدستورية التي تملي الاحترام الحاسم لمبدأ اتباع الجلسات المتواصلة للاقتراع والتي ينكرها فريق سياسي عريض لتبرير تعطيله المتمادي لانتخاب رئيس الجمهورية. عمَّ تراه يكون الحوار في قلب عملية انتخابية ملزمة وفي عز احتدام أزمة فراغ رئاسية ومؤسساتية هي الأخطر إطلاقاً في تاريخ بلد ضربه سوء المصير بأتعس ما يمكن تخيّله من طبقات سياسية؟ كيف يكون الحوار إن لم يكن بالاقتراع الحرّ المتحرّر من ربقة النزعات الى الاستقواء بميزان قوى مختلّ؟ هل هي “ثرثرة فوق النيل” على طراز أشهر روائع نجيب محفوظ في حوار “العوّامة” الذي يكشف انهيارات المجتمع؟ لا نظن أن أهل السياسة في لبنان يعترفون بالحاجة الى حوارات حقيقية موجعة كهذه تشكل اعترافات بانكشافهم الفاضح وإلا لما كانت هناك أزمة فراغ ولا حاجة الى حوار مزعوم للخروج من الأزمة.
بصرف النظر عن مواقف القوى السياسية ودوافعها للقبول أو الرفض أو التحفظ حيال دعوات رئيس البرلمان للمسمّى حواراً يتعيّن على اللبنانيين تجنّب الغرق في عمى المصطلحات الزائفة التي تتسابق وسائل الإعلام الى تكرارها وخدمة القوى المعطلة للاستحقاق في تعميمها. وليس ثمّة ما يُسمّى حواراً نتفجّع على عدم انعقاده حين تكون إثارة الحوار الغلالة الشفافة لطمس الانقلاب المتدحرج الذي ينفذ بعامل الوقت الممدّد لإبقاء الفراغ سيداً حاكماً وحيداً بغية تحقيق أهداف الانقلابيين. ليس الانقلاب فعلاً عسكرياً وتنظيمياً ومسلحاً ومخططاً له في غرف عمليات حربية دوماً، فثمّة انقلابات أخطر وأعمق في المطلق تجري فصولها على طريقة التسميم البطيء الفعّال الذي يخترق الأحشاء متهادياً. وليس كل صوت منذر بالهول لأن حواراً لم يُعقد صاحب أفضال عميمة على البلد حين يتحوّل الحوار محطة حاسمة للاستسلام وفرض شروط التبعية الخارجية التي يتولّاها أولئك الذين يظنون أن لبنان صار ملك تبعياتهم ويخشون فقدان فرصة الانقضاض النهائية الحاسمة على الدولة والنظام وإقامة نظامهم وسلطتهم عبر رئيس دمية رهن قرارهم الوحيد.
جرّب اللبنانيون ما لم يجرّب في كل البلدان التي مرّت بحروب وأزمات وكوارث، ولم يعد جائزاً وممكناً ومقبولاً التمادي الفادح في الكذب عليهم وذرّ الرماد في عيونهم والدفع بهم الى متاهات التلاعب بعقولهم. ليس في لبنان اليوم وغداً وبعده أيّ أزمة أفظع من ثقافة انقلابية استقوائية استولت على شريحة واسعة من الناس والسياسة والشارع والمؤسّسات. أيّ حوار ينتظم الآن هو إسقاط للدستور الذي يفرض أولاً وأخيراً وقبل أيّ شيء انتخاب رئيس الجمهورية، ليس أن هذا المجهول سيأتي حاملاً العجائب بل لأنه لا كيان للدولة اللبنانية إلا بانتخابه. أما اشتراط الحوار مع المعطلين للتسليم بانتخاب رئيس دمية فهو لا يُسمّى حواراً بل نهاية انقلاب ناجح بالنجاح… فقط!