كتبت النهار
رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل خاض معركة إقصاء زعيم “تيار المردة” سليمان فرنجية عن رئاسة الجمهورية الى الآخر وبكل ما يمتلك من قوة سياسية وعزم وحقد وإصرار. وهو استعمل الإعلام في معركته هذه، واستعمل حلفه مع “حزب الله” البادئ منذ “تفاهم مار مخايل” عام 2006 لإقناعه بالتخلّي عنه مرشّحاً وحيداً للرئاسة، ولإبلاغه أنه من دون تأييد الغالبية الساحقة من النواب المسيحيين المنتمين الى “تياره” والى حزب “القوات” كما الى حزب الكتائب وغيرهم، فإنه لن يستطيع إيصاله الى قصر بعبدا رئيساً. طبعاً استمع “الحزب” إليه بعناية وبذل جهوداً قوية معه كي يحافظ على وحدة “الخط” الذي يؤمن به هو وفرنجية. لكنه أخفق حتى الآن في ذلك ولا يبدو أنه سينجح، إذ لم يعد في استطاعة باسيل التراجع بعد معركته الدونكيشوتية التي خاضها في كل الإتجاهات، فزاد حدّة عداوة أخصامه وأعدائه له، وزاد نقزة “الحزب” منه بل خوفه وفي الوقت نفسه من تمسّكه بفرنجية مرشحاً رئاسياً وإن لم يُعلن ذلك رسمياً حتى الآن. ولماذا يُعلن ذلك؟ فلا أحد مستعجل لإنهاء الشغور الرئاسي إلا اللبنانيين الذين دفعوا دائماً ويدفعون الآن ثمن التطاحن الشخصي بين زعاماتهم، ويعجزون في الوقت نفسه عن الإتحاد في موقف معادٍ لها كلها ومطالِب بقيام دولة لا يحكمها الفساد وتكون جدية وحياة سياسية نقية من العصبيات الدينية والطائفية والمذهبية. لا أحد من الدول المهمة في المنطقة والعالم التي يعنيها أمر لبنان ومصير شعبه وانهيار دولته ومقوّماتها حاضر الآن للتدخل كما جرت العادة منذ الإستقلال عام 1943 لاتخاذ قرار لمن ستكون الرئاسة. وليس السبب فقط الوضع المعقّد في الإقليم والصراعات المحتدمة بين دوله الأساسية وفي مقدمها الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية وتركيا وغيرها، بل هو أيضاً الوضع المعقّد في العالم دائماً والذي ازداد تعقيده بعد غزو روسيا لأوكرانيا.
إنطلاقاً من ذلك واستناداً الى معلومات وردت الى متابعين لبنانيين جديين لأوضاع بلادهم ودور الخارج المتنوّع فيها، يمكن القول أولاً إن الفاتيكان لم يفقد اهتمامه بلبنان وشعبه ولن يفقده. لكن متابعته للتطورات فيه تجعله متيقناً أن لا رئيساً للبنان إلا في السنة المقبلة وليس في مطلعها بكل تأكيد. وهو ينتظر مصير محاولات بدء العمل الجدي لإنهاء الحرب في أوروبا من أجل استئناف حركته الدافعة في اتجاه حل مشكلات لبنان والشغور الرئاسي أوّلها. فالولايات المتحدة لا تبذل الجهد الفاعل على هذا الصعيد. وهي تعتمد على فرنسا للقيام بما يلزم. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قام بأكثر من اللازم في هذا المجال لكنّ اللبنانيين، على تنوّعهم، فشّلوه بسبب تناقض ارتباطاتهم مع الخارجَين الإقليمي والدولي واشتعال الطائفية والمذهبية بينهم. ولذلك قال ويقول، ولا سيما في المدة الأخيرة أمام مَن يفتح معه موضوع لبنان من أصدقاء ودول كبرى وأخرى إقليمية، ان لا مرشح له أو لفرنسا لرئاسة الجمهورية فيه، وانه مستمر في مساعيه لكن آماله في النجاح ليست كبيرة على الأقل في هذه المرحلة. أما الفاتيكان فيشعر بخيبة كبيرة من اللبنانيين على تنوّع طوائفهم ومذاهبهم والأديان، ولا سيما من مسيحييهم. وقد تكون هذه الخيبة أحد أبرز أسباب إرجاء زيارة البابا فرنسيس للبنان التي عزتها كنيسة لبنان الى أسباب صحية جعلت حركته صعبة، أهمها ألمٌ في ركبته استوجب جراحة أراحته لكنها لم تُزل الألم كلياً. وقد عبّر عن ذلك أمام أهل ثقة لديه بقوله: كيف أزور أنا الذي أضع صليباً خشبياً على صدري بلداً “يتزيّن” رجال دينه، ولا سيما المسيحيين، بصلبان من الذهب وغيرها؟
ماذا عن المملكة العربية السعودية؟ لا تزال على موقفها المعروف رغم استقبال ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي بعد مقاطعة مُزمنة له. ولا تعني زيارات سفيرها في بيروت وليد البخاري لشخصيات ليست من خط حلفاء بلاده في لبنان تغييراً جدياً في هذا الموقف. وهي لا تزال مصرّة على مواقفها اللبنانية الصعبة التلبية والمتعلّق منها بـ”حزب الله” وسلاحه ودوره في الإقليم وبتهريب المخدرات إليها وبالتدخل ضدها في اليمن وأمور أخرى عدّة. إلا أن سفيرها لا بد من أن يقوم في أسبوعَي عيدَي ميلاد المسيح ورأس السنة الميلادية بزيارات معايدة قد لا يخلو بعضها من إشارة سياسية وإنْ ضعيفة جداً. ولا يستبعد مطلعون أن “يعايد” زعيم “المردة” والمرشّح الرئاسي لـ”حزب الله” سليمان فرنجية في بنشعي.
ماذا عن قائد الجيش الذي تتناقض المواقف من فرص دخوله قصر بعبدا رئيساً؟ فبعض القوى اللبنانية مؤمنة بأن حظوظه الرئاسية مرتفعة بسبب اقتناع الدول العربية المعنية برئاسة لبنان، وفي مقدمها السعودية والإمارات وقطر وحتى مصر، بأنه مؤهّل أكثر من غيره لشغل الموقع الأول. ذلك أنه كان عاقلاً وحكيماً في أثناء قيادته للجيش وهي مستمرة. وهو اقتناع تشاركها فيه دول كبرى منها الولايات المتحدة. إلا أن قوى أخرى لبنانية لا تريده رئيساً، لكنها لا تجهر بهذا الموقف رسمياً وبلسان أبرز قادتها. فـ”حزب الله” متمسّك بفرنجية و”أمل” غير بعيدة من ذلك، وحزب “القوات اللبنانية” متمسك بمرشحه ميشال معوض أقله حتى الآن، ولا يمانع برئاسة قائد الجيش في حال تعذّر انتخاب الأول. لكنه مثل “أمل” و”الحزب” يربط انتخابه بتعديل دستوري لمادة تفرض عليه الإستقالة من قيادة الجيش قبل ستة أشهر من الإنتخاب كي يُصبح قادراً على استحقاق موقع الرئاسة قانوناً. أما “التيار الوطني الحر” فإن معارضة رئيسه جبران باسيل لانتخاب القائد عون رئيساً تساوي وربما تفوق رفضه رئاسة فرنجية. ويبدو استناداً الى معلومات متوافرة عند جهات مطلعة أن عملاً إدارياً – حكومياً يعدّ للنيل منه بواسطة الهبات المالية التي تلقّاها الجيش بواسطته، ولا سيما من دولة قطر، إذ هناك قوانين وأنظمة تتناول قبول الهبات وتنصّ على أن ذلك من مهمة مجلس الوزراء. وهبة قطر التي بلغت 60 مليون دولار أميركي (500 ألف شهرياً) لم تمر على مجلس الوزراء رغم إرسال وزير الدفاع موريس سليم في حينه كتاباً الى قائد الجيش بذلك في شهر آب الماضي. ويبدو أن النائب باسيل مصرّ على استغلال هذه القضية من خلال إرسال الوزير نفسه رسالة مماثلة أخرى الى قائد الجيش من أجل قوننة قبول الهبة المذكورة. فهل يتحمّل لبنان أن تصل الأحقاد السياسية الى هذا الدرك؟ وهل مجلس الوزراء قادر على الإجتماع لأخذ عِلم بالهبة؟ وهل فاحت يوماً رائحة سمسرة وفساد في قيادة الجيش التي على رأسها العماد جوزف عون؟ أم أن المقصود تشويه السمعة فقط ومن دون أي دليل على حساب مصلحة لبنان وجيشه؟