كتبت النهار
ثمة ثابتة تاريخية لم ينجح في طمسها جميع الذين حاولوا تزوير أسباب اندلاع الحرب في لبنان عام 1975 ورميها على المكوّن الطائفي وحده وتبرئة المفجّر الفلسطيني، وهي أن العامل الداخلي الأساسي الذي أسهم في إشعال الحرب تمثل في “فيتو” سياسي – طائفي معروف على نشر الجيش اللبناني لقمع التمدد الفلسطيني. أسهمت مفاعيل ذاك القمع السياسي آنذاك تباعاً وبسرعة في انفجار وحدة الجيش وانقسامه على أبشع الصور الطائفية وكان ما كان. مناسبة التذكير بهذه الحقيقة السوداء الآن تتصل بمخاوف متعاظمة من أن يكون القضاء اللبناني الذي يخوض معمودية تشرذم وتخبّط غير مسبوقة تحديداً منذ انفجار مرفأ بيروت بلغ مرحلة متقدمة من التعرض لمؤامرة مماثلة لمؤامرة 1975 ولو بدوافع ظاهرية لا ترتبط حصراً بالبعد الطائفي.
فجّر المحقق العدلي في ملف ثالث أكبر انفجار تقليدي عرفه العالم القاضي طارق بيطار قبل ساعات ما يصح أن نعتبره أول سابقة متجرئة من نوعها على حصارين: حصار القيادات والمنظومة السياسية المتواطئة على “دفن” حقائق مجزرة المرفأ، وحصار التخبط المرعب داخل السلطة القضائية منذ 13 شهراً هي عمر حشر هذا القاضي في زاوية التعجيز والشلل والخنق. قام طارق بيطار باختراق ناري نادر قياساً بالأصول القضائية التقليدية الشديدة الحذر والتروّي والتحفظ بدليل استحالة العثور على سابقة اجتهد فيها محقق عدلي أو قاضٍ لنفسه بما يتيح له كسر القيود القضائية التي كبّلت مهمته كما فعل بيطار. اشتعلت وستشتعل حرب اجتهادات قضائية وقانونية وحقوقية حول صلاحية وأحقية هذا التطوّر النادر كما ستشعل المبادرة النار في كل حنايا المشهد السياسي المتعفن بأزمات صنعها وأسهم في زج لبنان فيها معظم المتورّطين في محاولات دفن التحقيق العدلي في مجزرة المرفأ.
تبعاً لذلك، سيكون من الخطورة القصوى عدم التنبّه الى أن الساعات والأيام المقبلة ستشهد تركيزاً جانحاً بقوة عاصفة على دفع الجهات الرسمية السياسية التي تلوذ بقوى مناهضة معروفة للمحقق العدلي كما الجهات القضائية الرافضة لخطوته الأخيرة على الجوانب التي تغذي تخبّط القضاء وزعزعته والإمعان في إضعافه في ما يخدم العودة بقوة الى الحصار الذي كسره بيطار من خلال أبشع التوظيفات مهما تنوّعت وسائلها.
لن نجزم أبداً بأن انقضاض طارق بيطار على محاصريه محسوم نجاحه لأن طابع مبادرته مباغت الى حدود واسعة وتحتمل الكثير من الاحتمالات. ما هو محسوم أن طارق بيطار شكل حالة نادرة في التجرؤ والصمود والشجاعة والوقوف في وجه مؤامرة موصوفة تتمدّد تباعاً بصرف النظر تماماً عما إن كان بين من يطاردهم أبرياء أو مظلومون أو متورطون، فهنا تقبع العدالة حين يصح الصحيح في الإجراءات القضائية. المعنيّ الأول الآن بمنع انتصار المؤامرة على القضاء هو القضاء أولاً ومعه كل الرأي العام الحر الذي يتعيّن عليه استقاء التجربة من تاريخ بلد هو صنو الهشاشة نفسها التي قد تأخذه في لحظة الى أسوأ ما عرفه من تجارب. ولا حاجة باللبنانيين الى التوقف عند الغرغرة السخيفة التي يراد منها تخوين كل من ينتفض على قيود الفيتوات الطائفية والسياسية كتلك التي حاصرت المحقق بيطار أو رميه بتبعة الارتباط بتوجيهات غربية، لأن السؤال “الانقلابي” الذي يواجه به هؤلاء هو من يمكن أن يكشف للبنانيين سبب الذهاب الى حدود تقويض القضاء وشرذمته وإضعافه بهذا العصف الشرس بعد انفجار العصر في مرفأ بيروت؟