كتبت النهار
لم تعد البعثات الديبلوماسية في بيروت تحتاج إلى تقارير محلّية لمعاينة حقيقة الواقع اللبناني المتدهور على أشكال عدة وفي أكثر من قطاع ومؤسسة، وتبدأ من الاشتباكات في قلب الجسم القضائي ولا تنتهي عند الملفات المعيشية والاقتصادية التي تقض مضاجع اللبنانيين. ويشاهد أعضاء السلك الديبلوماسي بأمهات عيونهم الوضع المأساوي الذي تعيشه شرائح المواطنين في بيروت والمناطق، فضلاً عن معاينة الضغوط التي يسببها النازحون السوريون وإن لم يتطرّقوا إلى هذا الموضوع بإسهاب، أقله في الإعلام. ولا تقصّر وزارة الخارجية وبعثاتها في الخارج ولدى المنظمات الدولية في تسليط الضوء على هذا الملف الشائك وقرع ناقوس الخطر في ظل عدم قدرة لبنان على تحمّل أعباء النزوح.
وما تستغربه دوائر ديبلوماسية غربية في بيروت هو مدى حجم الخلافات واتساعها بين الأفرقاء ورؤساء الكتل النيابية وعدم تراجعها عن خيارات تأخذها، حيث تضعها في مرتبة المسلّمات في وجه الآخرين. ومن غير المفاجئ أن يخرج سفير غربي ناشط هنا ليطلق جملة من التحذيرات التي تهدد ما بقي من مؤسسات في لبنان إن لم يجرِ الإسراع إلى إيجاد العلاجات السريعة وقبل فوات الأوان. وفي رأيه إن عدم إقدام المعنيين على إحداث خروق سريعة تبدأ بإجراء الانتخابات الرئاسية وتشكيل حكومة جديدة، فإن ما ينتظر البلد سيكون على شكل “فيلم رعب أسود”، وإن على المسؤولين سواء كانوا في مجلسيْ النواب والوزراء ضرورة العمل على تفادي كل هذه الانهيارات المقبلة. وما يستهجنه السفير هو “عدم حصول تنازلات بين أفراد طبقة سياسية قاسية لا همّ عندها سوى تحقيق مصالحها الخاصة وهي تتفرج على هموم قواعدها وسائر اللبنانيين”.
ويضيف في جلسة ضيّقة أن الـ”بازل” الذي يجمع لبنان باتت أحجاره مهدَّدة بالانفراط وسيكون من الصعب جمعه إذا تفاهمت حلقات الانقسام هذه. وإن لم تسوَّ العلاجات المطلوبة في الأسابيع المقبلة “فسيتّجه لبنان إلى انهيارات كبيرة تفوق التوقعات”.
ولم يكتفِ بذلك، بل زاد أن المؤسسات ستنحدر وتنهار بوتيرة سريعة “لن يتوقع اللبنانيون مدى أخطارها”. ويدعو إلى التدقيق جيداً حيال ما حصل في المصارف إلى تعطيل القطاعات التربوية الرسمية وإدارات الدولة، والحبل على الجرار حيث ستنهار المؤسسات الواحدة تلو الأخرى، وما يحصل في القضاء هو آخر هذه الفصول.
ولم يكن ينقص هذه المشهدية إلا ما يحدث في القضاء في ملف جريمة تفجير مرفأ بيروت والاشتباك القضائي المفتوح على أوسع أبوابه بين المحقق العدلي القاضي طارق البيطار والنائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، الأمر الذي حوّل العدلية إلى “فيديراليات” تهدّد قواعد حضورها وهيبتها.
ويذكر هنا الديبلوماسي أن الخطورة التي تكمن في لبنان هي أن أكثر السياسيين في لبنان لم يطبقوا “الوصفات” الإصلاحية التي قُدّمت إليهم وصولاً إلى ضرورة الإسراع في انتخاب رئيس الجمهورية، لأن من غير المعقول تسيير أعمال بلد معقّد في حجم لبنان من دون رئيس، وأن كل ما يمكن أن يفعله المجتمع الدولي هو الإسهام في تحصين عملية الاستقرار قدر الإمكان ومن دون حسم عدم تفلّت الأمور على المستوى الأمني رغم الثقة العالية التي تحظى بها مؤسسة الجيش والدور الذي تؤدّيه في مختلف المناطق، رغم كمّ من الصعوبات التي تعرّض وحداتها من ضباط وجنود لم يقصّروا في تأدية الواجبات المطلوبة رغم خسارتهم الجزء الأكبر من قيمة رواتبهم.
في غضون كل هذه الموجات التشاؤمية التي تلف البلد، والتي لم تنجُ منها مختلف المؤسسات، ولا سيما مع ارتفاع أسعار المحروقات والدواء والمواد الغذائية وانعدام الرقابة والمحاسبة على وقع التصاعد الصاروخي لسعر الدولار أمام الليرة وتآكل رواتب الموظفين، لا سيما في القطاع العام، تتصاعد موجة الانقسامات في البلد وإن لم تصل إلى حدود الفوضى المفتوحة بفعل المهمات التي يقوم بها الجيش والقوى الأمنية.
ومن المفارقات أن الكتل النيابية والحزبية تناقش في البرلمان والمنتديات وعلى المنابر الإعلامية والتلفزيونية موضوع أهمية تطبيق اللامركزية الإدارية ويحضر الحديث عن توقّع السير بـ”اللامركزية الأمنية”، إذا استمرت هذه المشهدية على هذا المنوال.
ويبقى أن ما يحصل هو “حرب سياسية” مفتوحة بين الأفرقاء تذكّر المواطنين بسنوات “الحرب الأهلية” قبل عام 1990 لكنها تخاض في بينهم هذه المرة الأيام ولو من دون رصاص وخطوط تماس في بيروت والمناطق. وما يعيشه البلد اليوم، ينطبق عليه بالفعل قول الدكتور محمد السماك الذي يجسّد حقيقة ما وصلنا إليه “بدلاً من لبننة الصومال، بتنا نخشى صوملة لبنان”.