كتبت النهار
لم يبلغ التوحش العام في أي بلد ضربته انهيارات وأجهزت على سلطة الدولة الناظمة والرادعة والمسؤولة فيه مستوى قياسيا كالذي بلغه في لبنان. في مطالع السنة الرابعة من الانهيار المتدحرج ليس ثمة أسوأ من واقع يجسده توسّل مرضى السرطان في اعتصامات وحملات إعلامية موجعة مؤلمة للفت الأنظار الى مقتلة إنسانية تُرتكب يوميا وتتهدد حياة الألوف بسبب الافتقار الى الادوية والعلاجات تحت وطأة الازمة المالية وعدم تحييد هذه المأساة عن ابتزاز الكارتيلات. واذا كانت أسوأ الصدمات تتمثل باضطرار هذه الفئة الأشد تضررا وتعرّضا للخطر الى التحركات الاحتجاجية والاعتصامات المتواصلة “ولا تندهي ما في حدا”، فان هذا “الأسوأ” لا يضع حداً لمنظومة مترامية مستفحلة مستقوية باتت هي المنظومة الحاكمة مع تورط أكثرية الطبقة السياسية الفاسدة معها في تقاسم بقايا ما بقي من فتات العافية أو المتاجرة بالمواطن اللبناني.
نعني بذلك منظومة الكارتيلات الممسكة بحياة اللبنانيين والمتحكمة بإنفاق كل ليرة وكل دولار من يوميات المقيمين على ارض لبنان، لبنانيين أم أجانب أم نازحين سواء بسواء. وترانا في مطالع السنة الرابعة من الانهيار كأننا اصبحنا أسرى في معتقل عملاق أشبه بأفلام هوليوود عن روايات عصابات السجون نخضع لممارسات الكارتيلات وقراراتها وتسعيراتها وتحكّمها بكل القطاعات تحت استسلام تواطئي مشبوه للسلطة السياسية وتسهيلٍ وتبريرٍ للكارتيلات والمافيات المتوالدة منها في كل الاتجاهات والقطاعات. آفة الآفات تبدأ بكارثة تاريخية ربما صرنا الآن أقدر على فهم مسبباتها العميقة هي كارثة الكهرباء التي انتهت الى اشهار لبنان دولة فاشلة على مستوى دولي وعالمي فيما سلّمت القطاع الأشد حيوية وخطورة بكامله الى ايدي كارتيلات ومافيات أصحاب المولدات وصار البلد ألعوبة بين ايديها تتحكم عبره بأكثرية مسحوقة لا قِبَل لها سوى الرضوخ لهذه المافيا.
من المولدات الى الادوية وما أدراك ما يعني سوق التحكم بذعر الناس ورعبهم حين تختفي أصناف وتسقط أصناف وتُستبدل أصناف وتزدهر سوق استباحة الحياة ما بين دواء هارب من مريض وتاجر ومستورد لا يرحم ولا يرى في الازمة سوى فرصة استثمار نادرة قد لا تتكرر، وكل هذا والاسعار تتطاير من دون ضمانات للفقراء الذين صاروا يناهزون اكثر من تسعين في المئة من اللبنانيين.
وماذا عن الكارتيلات الأكثر تمازجا واختلاطا في يوميات المتاجر والسوبرماركت حيث التلاعب على ذروته يوما بالتسعيرات ويوما بطرق الدفع ويوما بالدولار ويوما بالليرة وكل يوم وكل لحظة بالتفنن في شفط ما لا يمكن للناس التهرب منه في الرضوخ “لقواعد” الكارتيل وقوانينه ودوما تحت تبريرات واهية عاجزة تافهة لسلطة الرقابة، ولا ندري اي رقابة مزعومة تمارسها.
ولن نبحر طويلا في اللائحة التي لا تنتهي، وحسبنا ان نعود الى الجذور الأولى للكارثة المالية التي تسببت بإحدى أسوأ وأبشع الكوارث التي اصابت شعبا في العالم، أي الكارثة المصرفية التي تحولت الى أضخم منهبة منظمة لودائع الناس في تاريخ نشوء المصارف التي يمضي بها كارتيل المصارف اللبنانية ولا يزال حتى الساعة. كارتيل مصرفي – سياسي – سلطوي – حكومي – نيابي مشترك يستحيل ان تجد مثيلا لمكوناته حتى في بلدان تجاوزت كوارثها في وجوه عديدة الكارثة اللبنانية مثل فنزويلا. وقد بلغ الامر الآن حدود انفجار التضخم بحيث نقف عند مشارف المجاعة وسط استفحال ازمة الفراغ والافلاس المتدرج في خزينة دولة ذهبت لحكم الكارتيلات!