كتبت النهار
كان أمراً لافتاً بل مفاجئاً للبعض أن يظهر رئيس مجلس النواب نبيه بري على منبر السفارة الإيرانية في بيروت ليكون راعي حفل افتتاح المقر الجديد الضخم للسفارة في حضور وفد إيراني حضر خصيصاً لهذه المناسبة من أبرز وجوهه أحد معاوني وزير الخارجية رئيس الوفد الإيراني المفاوض في الملف النووي. فالمعلوم أن بري مارس خلال الأعوام التي خلت من الأداء السياسي الدقيق ما يثبت بالملموس أنه ليس رجل طهران الأول في لبنان وأن علاقته بها تكاد تتوازى مع علاقاته بالعواصم العربية والخليجية تحديداً.
لذا فأن يختار السياسي المخضرم لحظة سياسية على هذا القدر من التعقيد والتشابك والالتحام داخلياً وإقليمياً، فمعنى ذلك أنه شاء عن سابق تصور وتصميم أن يبعث برسائل عاجلة ومشبعة بالإيحاءات والأبعاد الى من يعنيهم الأمر في الداخل والخارج.
وبكل المعايير فإن بري خطا خطوة نوعية لا يمكن ضرب الصفح عنها بل يتعيّن وضعها على المشرحة والتبصّر بأبعادها ومغازيها. ولعل ذروة الضوء في هذه الحركة تتجلى في الكلام الذي أطلقه بري على هذا المنبر خصوصاً عندما حض اللبنانيين جميعاً على أن يثبتوا عملياً أنهم “سياديون” بالمعنى الكامل والفعلي بحيث يتصرّفون “وفق المصالح الوطنية العليا”، لا وفق توجيهات الخارج وذلك لكي يثبتوا وفق كلامه “أننا قد بلغنا سن الرشد الوطني والسياسي، ونملك الجرأة والقدرة والمسؤولية الوطنية والمناعة السيادية لإقامة توافق وإنجاز استحقاقاتنا الداخلية والدستورية بأنفسنا وبما يتلاءم مع مصلحة لبنان وتطلعات أبنائه”.
واستكمالاً يدعو اللبنانيين الى “كلمة سواء نثبت فيها أننا قادرون” على خوض الغمار، ويسأل سؤال غير المستوثق “فهل نحن فاعلون؟”.
لم تكن، للراصدين للأداء السياسي لبري، إطلالته هذه على هذا المنبر والمضامين العميقة للخطاب الذي أطلقه، إلا ذروة مسار سياسي كان لزاماً عليه أن يتصدّى له ويسير فيه مذ صار لزاماً عليه كرئيس للسلطة التشريعية التصدّي له والتعامل معه. والمسار الصعب هذا ابتدأ عملياً منذ ظهور نتائج جولة الانتخابات الأخيرة وما أفرزته من توازن القوى، واستتباعاً منذ أن صار مكلفاً بإدارة جلسات انتخاب الرئيس الجديد بعد الشغور الرئاسي.
بطبيعة الحال لم يكن يخفى على سياسي يمتلك خبرة بري، حجم التداعيات الناجمة عن مجلس نيابي بهذا التشرذم واستتباعاً بهذه الفسيفسائية، إذ كان يعلم علم اليقين أن عنوان حملة الفريق الآخر عليه وعلى ما يمثّل سيقوم على قاعدة: هيّا بنا نقدم بكل عزم إنها فرصتنا الذهبية لكي نستردّ موقع الرئاسة الأولى.
منذ البداية سعى بري جاهداً إلى أن يكبح جماح رافعي هذا الشعار، فبادر الى رفع شعار مضاد عنوانه العريض أن تعالوا الى كلمة سواء حوارية برجاء أن تنتج توافقاً عاجلاً وجدياً على رئيس لا تنطبق عليه صفة الاستفزاز والتحدّي. وفي هذا الإطار أطلق دعوتيه الى طاولة حوار تنقذ الموقف قبل فوات الأوان، واضعاً في حساباته الضمنية أن ثمة مؤازرة ستأتيه من حليفه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. بيد أن التطورات المتسارعة التي أعقبت الجلسة الحادية عشرة لانتخاب الرئيس أظهرت لبري بالملموس أن ثمة من يضع العصيّ في دواليب مبادرته وتوجّهاته. ولعل من أبرز هذه التطوّرات:
– المبادرة التي حملها جنبلاط إليه وإلى آخرين وجوهرها الحقيقي طرح انتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون لملء الشغور الرئاسي. وهو تطوّر نوعي في توجّه قصر المختارة التاريخي المعارض لترئيس قائد الجيش بما أقنع بري بأن حليفه لم يعد معه على الموجة نفسها.
– الاعتصام في حرم الجلس الذي مشى به النائبان ملحم خلف ونجاة عون صليبا كان يعبّر عن توجهات كتلة التغيريين.
– موجة حراك مسيحي عالية المستوى تسندها إرادة روحية وسياسية أعلت الصوت لدرجة أنها وضعت الآخرين أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن تصرفوا النظر عن الرئاسة وتتركوا الملف لنا وإما المضيّ الى الحد الأقصى أي رفع لواء الدعوة الى فصم عرى الشراكة الوطنية، وفي هذا ما فيه من استعادة لخطاب وجد من يروّج له إبان سني الحرب الأهلية.
وفي لحظة معيّنة يروي زوار عين التينة أن بري استشعر أن ثمة من يسعى لمقاطعة مسيحية معلنة له خصوصاً بعدما سمع من بكركي ثلاث خطب تحاصره بتهم سوء الإدارة لجلسات الانتخاب وتعمّد إطالة أمد الفراغ فيما سارع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الى فتح باب التساجل معه على مصراعيه ليقطع آخر قنوات الاتصال بينهما كما رفع “التيار الوطني الحر” من نبرة عداوته الدائمة له.
وبناءً على كل هذه المعطيات استشعر بري أنه لم يعد مجدياً البقاء على نهج المرونة والسلاسة وأنه بات لزاماً عليه أن يردّ ليذكّر المعنيين عسى الذكرى تنفع بأن كل هذا المسار إنما هو عدمي وعبثي وأن الخطوة الأولى في مسار الإنقاذ الطويل تبدأ بـ”تعالوا الى كلمة سواء” وفق ما ردّد في خطابه في السفارة لكي “نثبت وإياكم أننا بلغنا سن الرشد حيث يتعيّن أن نحرر ذواتنا من الوصايات”.
وثمة من يرى أن بري أتى بكلام هو الوجه الآخر للكلام التصعيدي الذي أطلقه “حزب الله” في الأيام الأخيرة على لسان رئيس كتلته النيابية محمد رعد وعضو الكتلة حسن فضل الله وفيه أن “لا تراهنوا على إطلاق الضجيج وإعلاء الصوت فثمة ثوابت لا تبيح إنزال رئيس جديد من هذا الفريق أو تلك العاصمة فالأمر لن يحصل ولو اجتمعت الدنيا كلها”.
وبذا يعتبر الموقفان معاً (بري ورعد وفضل الله) وفق الفريقين بمثابة حائط صدّ في وجه كل المراهنين، ليس ضد الثنائي الشيعي فحسب بل ضد حلف سياسي يتكوكب حول هذا الثنائي، والسؤال البديهي من كلا طرفي الثنائي: هل من يسمع ويعيد الحسابات ويبدي استعداداً لملاقاتنا في منتصف الطريق؟