كتبت النهار
لم أعرف الرئيس رفيق الحريري شخصياً. ولم أكن اؤيد بعض سياساته، علماً أن اعتراضي لم يكن ليبدل في الامر شيئا. لكنني اليوم، وإنْ متأخراً، بتُّ على اقتناع تام بأن الحريري الأب، كان حاجة ملحّة للنهوض بالبلد بعد الحرب المدمرة. ولم يكن سواه من رؤساء الحكومات، مع الاحترام لرؤساء أمثال سليم الحص وعمر كرامي ورشيد الصلح، وهم من خيرة الأوادم، قادراً على المغامرة بالإعمار، ولو عن طريق القروض، وأيضاً المغامرة بحلّ ملف المهجرين، ولو مكلفاً، لمصلحة بعض الميليشيات التي احتلت وسط بيروت، ولم ترضَ بإخلائه إلا بأثمان باهظة، والكل يعلم ذلك. ولم يكن غيره قادرا على اعادة ربط لبنان بالعالم وتحسين صورته وجذب قادة الدول كما السيّاح اليه، رغم كل انواع الحصار من الوصاية السورية وادواتها، والحروب الاسرائيلية المتكررة على البلد.
ولم يكن اغتيال رفيق الحريري حدثاً عادياً، أو جريمة فردية، ولا حتى حزبية محلية، بل إن الاغتيال جاء ثمرة تقاطع مصالح ما بين الخصوم والحلفاء على السواء. جريمة بهذا الحجم، لم يكن مرتكبها قادراً على المغامرة بها، لو لم يحصل على ضوء أخضر مخادع، تحوّل أحمر، بين ليلة وضحاها، ليغدو لاحقاً ورقة محاسبة، ويمكن القول احيانا ورقة مساومة. حتى المحكمة الخاصة بلبنان، ذات الطابع الدولي، خضعت للبازار عندما خرجت باتهامات فردية فقط.
وإذا كان خصوم الحريري، ومنهم النظام السوري، ينظرون اليه بعين الريبة، بعدما تحوّل موفداً دولياً للعاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز، وصديقاً شخصياً للرئيس الفرنسي جاك شيراك، كما لرؤساء دول أخرى، ويرغبون في التخلص منه، فإن اسرائيل، هي الأخرى، سعت الى التخلص منه لإضعاف الدور الاقتصادي للبنان الذي نمّاه الحريري عبر المصارف والسياحة والمطار والمرفأ والمستشفى والجامعة، وهذه القطاعات التي ضُربت جميعها تباعاً منذ اغتياله، تضرّ باقتصادات كل الدول المحيطة الصديقة والعدوة معاً. ويستمر مسلسل القضاء عليها الى اليوم.
ولم يكن إضعاف دور الرئيس سعد الحريري، ومحاولة القضاء عليه، إلا حلقة في هذا المسلسل الذي يقتل رئة لبنان الاقتصادية والحياتية، ويسمح لمرافق اخرى في المنطقة بالانتعاش.
إن ترك لبنان من الأقربين، سواء أكان مقصوداً أم غير مقصود، يدخل في إطار هذه المؤامرة، إذ يتفرج على سقوطه الجميع، ولا يتحركون إلا لحاجات إنسانية بسيطة تقيه الجوع تماماً كما تعامَل دول افريقية من الاكثر فقراً.
بالأمس، خرجت إحدى الصحف بمقال يتحدث عن “تهريب” رفيق الحريري الشاب العروبي، أسلحة الى دول أوروبية، بالتنسيق مع وديع حداد القيادي الفلسطيني وأحد مؤسسي “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، وقبلها حركة القوميين العرب التي انتمى اليها الحريري مطلع شبابه.
ولا أعلم ما اذا كان المقال المنشور يهدف الى تسليط الضوء على الحريري الأب، كمناضل من أجل القضية الفلسطينية المحقّة، أو لإظهاره كمهرّب للسلاح الى دول أوروبية فتحت له أذرعها لاحقاً.
في أي حال، يبدو واضحاً أن الرئيس رفيق الحريري، لا يزال من قبره يقضّ مضاجعهم، وان عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت، في زيارة لا تتجاوز اياما، تقلقهم، لأنهم لا يريدون للبنان الحياة واستعادة عافيته، وألقه، وماضيه القريب قبل البعيد، بل يريدون طمسه وطمس الحقائق معه، حقائق الاغتيالات، وحقائق انفجار مرفأ بيروت، وكل التفجيرات، وحقائق الانهيارات والسياسات الخاطئة التي اعتُمدت لتسرّع الانهيار.