محمد وهبة – الأخبار
مجدداً، قرّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وبالاستناد إلى مواد في قانون النقد والتسليف تمنحه صلاحيات مفتوحة، التدخّل في السوق بائعاً للدولار بهدف معلن هو خفض سعر الصرف. تدخّله هذا، يعزّز عمليات المضاربة على العملة، ولو أنه يحقّق انخفاضاً محدوداً في سعر الصرف لأيام معدودة، إلا أنه يأتي أيضاً بكلفة هائلة تتمثّل في تبديد الدولارات التي جمعها مصرف لبنان. لاحقاً يعود سعر الصرف إلى مساره السابق ويعود الناس إلى التكيّف معه.
فور تجاوز سعر صرف الدولار في السوق الحرّة الـ90 ألف ليرة للدولار الواحد، أصدر مصرف لبنان بياناً يشير فيه إلى أنه اعتباراً من صباح اليوم وحتى إشعار آخر، سيتدخّل بائعاً للدولار النقدي وشارياً لليرة على سعر 70 ألف ليرة، وأنه سيلبي كامل الطلب العائد للشركات والأفراد ضمن سقف للأفراد يبلغ مليار ليرة شهرياً عن كل حساب في كل مصرف وضمن سقف للشركات يبلغ 10 مليارات ليرة لكل شركة في كل مصرف باستثناء مستوردي المحروقات، وأنه سيسدّد الدولارات في غضون ثلاثة أيام عمل. وبذلك، حدّد سعر صيرفة بقيمة 70 ألف ليرة، فيما يستمر العمل بالتعميم 161 لتسديد معاشات القطاع العام علماً بأن سعر صيرفة المحدّد لهذه المعاشات يبلغ 45500 ليرة.
هذه ليست المرّة الأولى التي يقرّر فيها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، التدخّل في السوق وفق هذه الآلية التي تعتمد على التعميم 161 وعلى تسجيل العمليات على منصّة صيرفة. ففي كل مرّة يسجّل فيها سعر الصرف في السوق الحرّة، قفزات كبيرة وسريعة، كان سلامة يعمد إلى هذا النوع من التدخّل والذي ينطوي على ضخّ الدولارات في السوق. إنما في المرات السابقة كان القرار أو التعميم يصدر بعد اجتماع برئاسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، أو كان يتضمن شروطاً مثل «أوقفوا الصرافين»، وهو أمر كان ينطوي على كثير من الترويج بأن الحاكم متحكّم في سعر الصرف وسط مضاربات تدفعه إلى الحياد عن مساره «الصحيح». إنما تشير الوقائع والمعطيات المتعلقة بسعر الصرف، إلى أن الحاكم فاقد السيطرة تماماً على السوق. لا بل يعدّ هو الجهة التي تضارب على الليرة اللبنانية. فعلى مدى الأشهر الماضية، وبحسب ما أظهرت التحقيقات مع الصرافين، تبيّن أن مصرف لبنان هو من كان يشتري الدولارات بقيمة تتراوح بين 200 مليون دولار و400 مليون دولار شهرياً من دون أن يحدّد السعر مسبقاً ما يتيح للصرافين التلاعب بالسعر. جمع الدولارات بهذه الطريقة وبوتيرة زمنية ضيّقة نسبياً، يؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف، أي أن مصرف لبنان يتكبّد في كل مرّة كمية أكبر من الليرة للحصول على الكمية نفسها من الدولارات. والليرات يحصل عليها مصرف لبنان من خلال طباعتها.
عملياً، الطلب الذي يسجّله مصرف لبنان على سعر الصرف، إلى جانب ضعف القوة الاستعمالية لليرة (الليرة لم يعد مرغوباً فيها كعملة أساسية وبدأت السوق تذهب تدريجاً منذ سنتين نحو استعمال الدولار النقدي)، يدفع سعر الصرف إلى قفزات كهذه. فقد قفز سعر الدولار من 50 ألف ليرة إلى 70 ألف ليرة، ثم إلى 90 ألف ليرة، أي بزيادة تتجاوز 100% ضمن فترة شهرين، وهذه سرعة قياسية مقارنة بقفزات سابقة لم تصل فيها الزيادة إلى 50% خلال فترة ثلاثة أشهر كما حصل مثلاً حين قفز سعر الدولار من نحو 8 آلاف ليرة في كانون الأول 2020 ليسجّل نحو 12 ألف ليرة في آذار 2021.
*70 ألفاً لسعر صيرفة يعني أن مصرف لبنان لا يرى أن السعر الفعلي لليرة أقلّ من ذلك*
اللافت في القرار الأخير، أنه يحدّد سقوفاً لبيع الدولارات للشركات والأفراد خلافاً للقرارات السابقة التي كانت بسقوف مفتوحة إجمالياً ثم يتم تضييقها بعد نفاد مفاعيلها الإجرائية الفعلية. لكن القرار ينطوي أيضاً على زيادات ضريبية هائلة على الأفراد والأسر، ولا سيما لجهة تسديد فواتير الهاتف الخلوي وتسديد فواتير الكهرباء الرسمية. وهو بذلك، يكون قد أجبر الناس على التكيّف مع السعر الجديد. فسعر صيرفة كان 45 ألف ليرة، ثم ارتفع بقرار واحد إلى 70 ألف ليرة، أي أن مصرف لبنان لا يرى أن السعر الفعلي لليرة هو أقلّ من ذلك. وارتفاع السعر إلى هذا الحد، يلغي أي حلم بأن يكون هدف التدخّل خفضه إلى 60 ألف ليرة، مثلاً، علماً بأن هذا المستوى لم يسجّله سعر الصرف إلا قبل نحو شهر فقط. بعبارة أوضح، الهدف غير المعلن من هذه الخطوة أن يتكيّف الناس مع ارتفاع إضافي في سعر الصرف المعتمد من مصرف لبنان على منصّة صيرفة، وهو ما سيمنح دفعاً قوياً في اتجاه ارتفاع سعر الصرف في السوق الحرّة عندما يوقف مصرف لبنان تدخّله. وهذا أمر سيحصل قريباً، إذ إن الحاكم لا يمكنه استعمال مبلغ كبير من موجوداته بالعملة الأجنبية التي تدنّت عن الـ10 مليارات دولار ومن ضمنها حقوق السحب الخاصة. فالحاكم يعد بأنه سيبقيها في هذا المستوى لحين انتهاء ولايته، رغم أنه لا يمكن الجزم بأنه يسعى فعلاً لذلك. لكن الواقع يشير إلى أن السوق فيه كمية كبيرة من الليرات ومحفّز بالمضاربات الشرهة التي يمكنها أن تبلع مليارات الدولارات خلال بضعة أيام. وما اعتدنا عليه في التدخلات السابقة كهذه، أن الحاكم يأمر بالتدخّل لفترة قصيرة نسبياً، ثم ينسحب ليعود سعر الصرف إلى ما كان عليه سريعاً، ثم يتكرّر الأمر نفسه انطلاقاً من الخطوة التي يقوم بها الحاكم بشراء الدولارات من السوق لضخّها في عمليات تدخل مستقبلية عندما يقفز سعر الصرف. دوامة سعر الصرف التي يخلقها رياض سلامة تحفّز المضاربات ثم تخمدها… وهكذا دواليك.