ندى أيوب – الأخبار
عندما أعلن قُضاة لبنان اعتكافهم الصيف الماضي، سموه «التوقّف القسري عن العمل» للدلالةِ على تعذّر العمل حتى لو توافرت الرغبة. بعد شهرين من فكّ الاعتكاف، يبدو وكأن شيئاً لم يتبدّل إذ لا يزال «التوقف القسري» سائداً بسبب «الانهيار اللوجيستي» لقصور العدل، بما لا يسمح بالعملِ إلا ضِمنَ نطاقٍ ضيّق يُعطي الأولوية لملفاتِ الموقوفينَ والقضايا العاجِلة. فيما مجلس القضاء الأعلى ووزارةِ العدل اعتادا «تاريخياً» غياب الديناميكية العالية، والعمل بوتيرة شديدة.
عشيّة رأس السنة، ومُقابِل إضافاتٍ مرحلية على الراتب لم تشكّل حلاً جدياً، ارتضى القضاة العودة إلى العملِ بعد خمسةِ أشهُرٍ من اعتكافٍ لم يَكُن حصاده متناسِباً وثمنه الباهِظ على المُتقاضين أولاً، ممن تراكمت ملفاتِهِم في قصورِ العدل وتركت أثرها على حيواتهم، وعلى المُجتمعِ ثانياً. حينها استبشر البعضُ خيراً بأنّ وتيرة العمل ستعود و«تُسيسر» الملفات العالقة منذ 16 آب، تاريخ بدء الإضراب القضائي. لكن واقع العدليات التي تفتقد إلى أدنى المستلزمات اللوجيستية كان أقوى، فارضاً شللاً على عمل القضاة، بدأ مع بدء الاعتكاف القضائي ولم ينته بانتهائه. وهو يستمدّ استمراريته من غياب أبسط مقومات العمل، كالتيار الكهربائي وحِبر آلات الطِباعة كما الأوراق والأقلام وكل ما يدرج في خانة القرطاسية، ناهيك عن عدم قدرة القضاة والمتقاضين والموظفين على تحمّل تدنّي درجات الحرارة في محاكم الأطراف التي تفتقر إلى وسائل التدفئة، فضلاً عن انقطاع المياه في بعض العدليات، وتسرّبها من جدران أُخرى.
وليس بعيداً من أزمة فقدان مُستلزمات العمل، عادت أزمة النقل لِتَستَفحِل من جديد. فأسعار المحروقات تضاعفت من 750 ألف ليرة للتنكة نهاية العام الماضي مع عودة القضاة عن الاعتكاف إلى مليون ونصف ليرة اليوم. وما يجعل من الأمر معضلةً حقيقية، هو أن التوزيع الجغرافي للقضاة على المحاكم لم يراعِ يوماً أماكن سكنهم. وللأمر مبرره نتيجة تنوّع المناصب القضائية بحسب الوظيفة. فتركيب الـ«Puzzle» القضائي في كل محافظة من مجموعة قضاةٍ متنوّعين على صعيد الدرجات، يستوجب حكماً تعيين عددٍ من القضاة من خارج نطاق المحافظة نفسها. إلا أنه قبل العام 2019، في زمن دعم المحروقات لم يشكّل هذا التوزيع عائقاً كما هي الحال راهناً.
وفي عنوان آخر من عناوين «كربجة» العمل، يظهر أثر فشل مجلس القضاء الأعلى في إتمام التشكيلات القضائية، ومن ثم الاختلاف على الانتدابات المؤقتة للقضاة لارتباطها بصفقةٍ طائفية على صعيد البلد. لذلك نجد، مثلاً، أنّ في محافظة النبطية ثلاثة قضاةٍ مُنفَردين، في حين أن حاجتها الفعلية وفق مصادر قضائية هي لسبعة، ما أدى – في النبطية وعدد من المحافظات – إلى استلام القاضي الواحد عدّة مناصب قضائية مُختَلِفة ومتناقضة، تتضاربُ أحياناً قانونياً أو معنوياً، كأن يُنتَدَب قاضٍ مُنفَرِد رئيس بداية في أحد المراكز. ويستتبع ذلك أيضاً، أن يتعطّل جزء من العمل، وهو يعني عملياً أن قاضيين أو ثلاثة لا يقومون بمهامهم. بدأ هذا الواقع وفق المصادر عام 2000، وتعزز بعد الـ2005، إذ اعتاد القضاة ممن يحظون بواسطة رفض العمل في محافظاتٍ معيّنة يتم فرزهم إليها.
تفتقر المؤسسات القضائية كما سائر مؤسسات الدولة إلى مفهوم الإدارة الرشيدة، إلا أنّ العدليات على وجه الخصوص حكمتها عقلية تقليدية، باتت أشبه بـ«مشكلة مزمنة يجب حلّها»، بتعبير مرجع قضائي. بحيث لم يسعَ وزراء العدل المتعاقبون، ولا مجالس القضاء الأعلى، ولا الحكومات، إلى أي تطوير في قصور العدل منذ انتهاء الحرب الأهلية قبل 33 عاماً، من أصغر الماديات المستخدمة إلى القوانين الموضوعة. وفي واحدة من الانعكاسات ضلّت التكنولوجيا طريقها إلى العدليات، فلم يتم اعتماد المكننة وبقيت المعاملات والأحكام والدعاوى الخ… تُكتَب بِخط اليّد عبر مُباشِرٍ. وهو واحد من أسبابٍ عدة، جعلت من المساعد القضائي بمثابة «اليد اليمنى» للقاضي، حتى أن أي هيئة محكمة لا يمكن أن تُعقد في لبنان من دون حضور الكاتب. وهذا الدور تبرز أهميته في كل مرة يُعلن فيها المساعدون القضائيون الإضراب عن العمل، كما هي الحال منذ شهرين. إذ تزامنت عودة القضاة عن الاعتكاف مع إضراب موظفي الإدارة العامة المستمر لتاريخه، ومن ضمنهم المساعدون القضائيون.
في الأصل، حين عصفت أزمة 2019 بالبلد، لم تُعلن حالة الاستنفار قضائياً، ولا حالة طوارئ لإدارة الأزمة. فمجلس القضاء الأعلى برأي مراجع قضائية «غير مهتم»، وفي حال هبط الوحي فـ«حركته بطيئة»، ويعتبر أن «وزارة العدل معنية أكثر منه بأمور كهذه»، بينما الوزارة عادةً ما تجيب بأن «مسؤوليتها هي الموظفون لا القضاة».