كتبت النهار
مهما تكن عوامل الانقسامات والتفسيرات الداخلية المتناقضة التي تسود المشهد اللبناني حول كل الأزمات المفتوحة بلا حلول ولا وعود بحلول وشيكة فإن عاملاً لا جدل فيه يقف أولاً وأخيراً وراء تفجّر ملف النازحين السوريين يكمن في الانفتاح “المجاني” للعرب على نظام بشار الأسد. مشكلة لبنان في هذا السياق أنه الآن بلا رئيس للجمهورية بما يفقده الرئيس في الدور الجوهري الذي لا يمكن سواه، لا حكومة ولا مجلساً نيابياً ولا وزارات، تعويضه في ما كان يمكن الرئيس وحده من موقعه الدستوري والمعنوي الاضطلاع به في مواجهة هذه الكارثة الوجودية المتمثلة بانفجار واقع النازحين السوريين. ما اتخذ من مقرّرات حكومية قبل يومين كان من الناحية النظرية المبدئية جيداً في معظمه، ولكن لماذا ترك الأمر حتى البارحة ولماذا ليس قبل استحالة استدراك الانفجار الديموغرافي هذا المنذر بحرب حتمية كما تسود المخاوف؟ بالنمط نفسه تركت معضلة النازحين السوريين غداة بدء تدفقهم على لبنان بعد اشتعال الحرب السورية فكان الانتشار العمودي والأفقي لهم في كل أنحاء لبنان فيما كانت الجمهورية برمّتها والطبقة السياسية برمّتها لاهية بثرثرة قاتلة بلا أيّ إجراءات ناجعة لاحتواء الكارثة. الآن تعود اللعنة بأسوأ من ذي قبل لأن الوقائع الموضوعية للأزمة تجاوزت الخيال وكل المستويات المنطقية المقبولة لبلد في تحمّل عبء انتحاري يتهدّده بأن يتجاوز منسوب النازحين فيه عدد اللبنانيين المقيمين أنفسهم بعد سنوات قليلة.
قام العرب عشيّة القمّة العربية يهرولون نحو نظام الأسد، بوجوه شتى وتحت عنوان خشبي موروث من زمن انتهى وصار من ماضي ما قبل تحوّل سوريا ركاماً بفضل هذا النظام، هو”إعادة سوريا الى الحضن العربي”. لو كان في لبنان رئيس للجمهورية بمعايير القسم الذي يحلفه لدى انتخابه، لوَجَب عليه أولاً أن يطلق الصرخة المدوّية باسم اللبنانيين في الوطن والمهاجر، سائلاً العرب: ماذا اشترطتم على بشار في أكبر كارثة تهجير لشعبه جعلت ملايين منه موزّعين بين لبنان والأردن وتركيا لكي تعوّموه على هذا النحو المخزي المعيب الفاضح؟ لو كان في لبنان رئيس اليوم لانتزع مشروعية النطق باسم “الأمة اللبنانية” لمرة في التاريخ بأن جعل من نفسه الصوت الصارخ في وجه خطر دولي ساكت عن حق النازحين السوريين في العودة الى بلادهم وحق لبنان في التخلص من كارثة أعبائهم وانتشارهم على أرضه.
أخطر ما ساد المشهد اللبناني في الأيام الأخيرة ضياع البوصلة ضياعاً عشوائياً في توظيف أخطر ما يحيق من تهديدات وجودية بلبنان وهويّته بفعل كارثة النازحين السوريين. عبثاً تُترك هذه الكارثة مجدّداً لتقلبات ظرفية مع أزمات الداخل اللبناني وإلا فإن انفجارها سيمضي متدحرجاً نحو أخطر الذرى. والحال، وبمنتهى الخلاصات الصريحة، لن يكون حلّ للكارثة ولو حتى بدايات حل على أيدي هذا الداخل ما دام لبنان مفتقراً الى سلطة رافعة لمنطق الدولة التي تقتحم حصنين: حصن العرب وحصن الأمم المتحدة، لأن النظام السوري لن يفهم إلا بلغة من يملك فرض الشروط الحاسمة عليه ومن يرغمه تالياً على “استرداد” نصف شعبه الذي صار شتاتاً في بلدان الجوار وأولها لبنان. لن تنفع ثرثرة الداخل اللبناني في شيء إلا الشحن والتهيّؤ لفتنة عنصرية صارت قاب قوسين أو أدنى من الاشتعال وقد تسابق كل تداعيات الأزمات الأخرى التي يختنق لبنان تحت وطأتها