إبراهيم الأمين – الأخبار
في لبنان، بات الاحتفال بالأول من أيار، أشبه بالطقوس الدينية، فيما قلّة تتعامل مع المناسبة من زاوية أنها تمثل شيئاً حقيقياً يجب الاعتناء به. معظم المحتفلين بالمناسبة، لا ينطبق عليهم التعريف الشيوعي التقليدي للطبقة العاملة. علماً أن المتغيّرات الهائلة التي طرأت على أدوات الإنتاج في كل القطاعات، توجب إعادة تعريف مفهوم الطبقة العاملة، وتحديد من تنطبق عليه هذه الصفة. وإذا تقرّر ربط العامل بقوة الدخل، فسنكون في لبنان اليوم أمام صورة جديدة، إذ إن غالبية ساحقة من العاملين في المؤسسات العامة والخاصة، هي من العمال وصغار الكسبة. لكنّ المشكلة أن هؤلاء لا يقبلون هذا التوصيف، وبالتالي يرفضون النقاش حول الإطار النقابي الذي يجب أن يجمعهم، سيّما في ظل عدم وجود مهتمّين بهذا الشأن لا نظرياً ولا سياسياً، كما في ظل سطوة العقل الليبرالي على تيارات اليسار في لبنان، والسلوك نحو الخلاص الفردي بدل الحل الجامع.
على أي حال، وبما أننا في قلب موجة جديدة من مباراة العنصرية والاستغلال التي يجيدها كثيرون في لبنان على خلفية ملف النزوح السوري، فإن تدقيقاً يتيح لنا الاستنتاج بأن المستهدفين بهذه الحملة ليسوا النازحين بهويتهم وأصولهم فقط، بل بما يمثلون اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وسط نزاع بينهم وبين من باتوا اللبنانيين الذين هم فعلياً من «الطبقة العاملة وصغار الكسبة»، والمشكلة الكبرى هي في غياب المنطق لدى الذين يحتجّون من موقع المنافسة في الدخل وليس المنافسة في قوة العمل نفسه، وخصوصاً عندما يستخفّ الناس باستخدام عبارات من نوع «أكلونا، وما عم يخلولنا شغل، وشوف كيف عايشين أحسن منا»، وغيرها من العبارات التي لم تكن قيد التداول قبل انفجار الأزمة في لبنان. لأن اللبنانيين يرفضون المراجعة وتحمّل المسؤولية عما أوصلهم إلى وضعهم الحالي.
الفكرة هنا، أنه بعد انطلاقة الحريرية ببرنامجها الاقتصادي والمالي والنقدي مطلع تسعينيات القرن الماضي، انطلقت عملية التغيير على صعيد التشكّل الطبقي بمعناه الحرفي في لبنان. وعد رفيق الحريري، بما يمثل في تلك اللحظة، اللبنانيين، بأنه سينقلهم إلى مستوى آخر من العيش، وأن ما حصّلوه من تعليم وترقٍّ اجتماعي، أو ما حصلوا عليه من مكاسب خلال الحرب وبعدها، سيتم تأطيره ضمن كادر جديد، وأنه لم يعد لزاماً عليهم القيام بالأعمال ذاتها، بل سيصار إلى الاستعانة بجيش جديد من العمال. وأقنع الحريري الناس بأن الموظف في مؤسسة رسمية، أو في أي شركة خاصة، ليس بعامل، ولا يجب أن يتصرف كعامل، وبالتالي، لم يعد هناك من حاجة لا إلى نقابات، ولا إلى مؤسسات ضامنة لحقوق العمال. حتى إنه مسح الدور الجوهري لنقابات المهن الحرة أيضاً. وقد أرفق نظريته هذه، بتعديل جوهري على سياسة تأمين الموارد، بأن سمح لهذه الفئة من الناس بأن تنتمي إلى نادي المستهلكين، مستنداً إلى مبدأ أن هؤلاء الذين يقبضون رواتبَ موثقة ومستقرّة أول كل شهر، بات بإمكانهم الاتكال على دخل إضافي يجري تأمينه من خلال سياسات الاقتراض المفتوحة. وحتى تكتمل اللعبة، أوجد القطاع المصرفي الذي جذب الأموال مقابل أرباح هائلة، ما أنتج عملياً فورة استهلاكية استندت إلى إقناع الناس بأن عناصر التميّز التي يحتاجون إليها عن العمال الآخرين، تتطلب تعديلاً في السكن ووسائل النقل واللباس والسفر والأكل والشرب وخلافه.
عملياً، دفع الحريري بغالبية من العمال اللبنانيين الحقيقيين، ولو كانوا موظفين في الدولة أو أساتذة جامعيين أو مهندسين أو حرفيين، للارتماء في حضن الاستهلاك بأموالهم وأموال غيرهم، حتى حصل الانفجار الكبير الذي نواجهه اليوم. ولم يكن الحريري، ومعه طبقة متجذّرة في لبنان، يهتمون للحظة بأحوال القوة العاملة «المستوردة» للقيام بما أسموه «الأعمال السوداء».
تخيّلوا أن عامل البناء والمزارع وعامل النظافة والسنكري وسائق سيارة الأجرة والحاجب، كلّ هؤلاء صاروا مصنَّفين ضمن العمالة السوداء، أي أنهم لا ينتمون إلى طبقة الموظفين الذين خرج من يقرر أنهم يمثلون الطبقة الوسطى، بينما هم في حقيقة الأمر، ليسوا إلا عمالاً ولو مع ربطات عنق، وأن صفة الطبقة الوسطى، أي الطبقة الأعلى من العمال، كانت مجرد بطاقة للدخول إلى نادي المستهلكين من أجل تنمية ثروات قلة دمّرت البلاد وهربت مع أموالها إلى الخارج، بينما تتحكّم بقيتها بنا جوعاً ودموعاً ودماء.
عملياً، يبدو النقاش والسجال القائمان اليوم عاكسيْن للانسداد السياسي في لبنان حول الملفات الشائكة من جهة، وخشية أوروبا العنصرية من هجرة سورية إلى بلادها عبر لبنان وتركيا. لكنّ اللبنانيين المنخرطين في السجال، إنما يفعلون ذلك على خلفيات كثيرة، إنما يشترك فيها التوتر الكبير الناجم عن الانهيار الاقتصادي. في لبنان اليوم من ينظر إلى السوري بالقياس إلى حالته هو.
يرفض اللبنانيون الإقرار بنتائج «عصر الاستهلاك» ويقارنون أنفسهم بالنازحين، متجاهلين الأسباب الحقيقيّة لأزماتهم
قسم كبير من اللبنانيين الذين يهاجمون النازحين السوريين اليوم، لم ينطقوا بحرف عندما كان هناك نصف مليون سوري يعملون في لبنان منذ ثلاثين سنة وأكثر، لأنهم ما كانوا يرون فيهم منافساً على الثروة بل على الاستهلاك. وبعض اللبنانيين يعتقدون أنه في حال تم إخراج السوريين من لبنان، فإن ما كان يصلهم من أموال سيذهب إلى جيوب اللبنانيين. هؤلاء يتجاهلون أن التمويل الخاص بالنازحين جرى تقسيمه منذ اليوم على فئتين، الناجين أنفسهم من جهة، والعاملين في خدمتهم من جهة ثانية. وقد تحكّم صاحب التمويل بالفئتين معاً. كما يتجاهل اللبنانيون الغاضبون أن الخلاف على الإحصاءات حول عدد النازحين، يشبه خلافهم على إحصاء الطوائف اللبنانية، وأهل لبنان شاطرون في نفخ الأرقام، من تظاهرات الملايين في آذار عام 2005، إلى كمية الأموال المنهوبة أو المهرّبة من لبنان في السنوات الأخيرة وصولاً إلى عدد السوريين. ينظر اللبناني من حوله، فلا يجد أهله، وعندما يرى السوري، فهو يجده أمامه، لأن هذا النازح لا يزال هو من يقوم بما تسمونه «الأعمال السوداء»، فهو يراه كل يوم، ناطوراً أو عامل نظافة، أو عاملاً في مطعم أو مزارعاً أو معمرجياً أو حتى سائقاً ومرافقاً وبائع خُضر، ولذلك صار اللبنانيون يعتقدون أن السوريين هم كل من يعيش على هذه الأرض.
حتى الاحتجاج على آثار النزوح السوري على البنى التحتية في لبنان، لم يشعر به العنصريون أو الملتحقون بهم، إلا بعد الأزمة. وعندما كانت الكهرباء موجودة وهناك من يلمّ النفايات كل يوم، ولا توجد طوابير على محطات البنزين، والقطاع الصحي شغّالاً دون توقف، لم يكن اللبناني يشعر بأن السوري يؤثر على البنى التحتية، بل كل قسم كبير من اللبنانيين يدرس كيفية استغلال السوري، سواء في الأعمال حيث لا يوفر له أي ضمانات اجتماعية، ولا هو يسألهم عن أحوال عائلته وسكنه وصحته، لكنّ اللبناني الذي فقد هذه الامتيازات، صار يتصرف بضيق إزاء توفر بعضها عند النازح السوري. ويرفض هذا القسم من اللبنانيين الإقرار بأن ما يحصل عليه النازح السوري اليوم من رعاية اجتماعية وصحية وخلافه، إنما يمثل الحد الأدنى الذي لا يقبل به اللبنانيون حتى في ظل الأزمة القائمة…
الأكثر مدعاة للسخرية هو أن اللبنانيين يرفضون، حكومة وشعباً ومؤسسات، الإقرار بالدور المركزي للسوريين ولعاملين من بلاد فقيرة أخرى في الدورة الاقتصادية خلال ثلاثة عقود وأكثر. هم يرفضون الإقرار الآن بأن الأموال التي تُنفق على النازحين السوريين، أو التي يحصل عليها النازحون كبدل من أعمالهم، إنما لا تكفي النازح نفسه لتوفير مستلزمات عيشه اليومي في بلد مثل لبنان اليوم، الذين ينفخون الأرقام كيفما قرّروا، لا يقرون بالرقم المالي السنوي الناجم عن وجود النازحين من جهة، وعن إنتاج العمالة السورية في لبنان من جهة ثانية…
في النهاية، لو أريد للبنان اليوم أن يعيد تنظيم نقاباته العمالية بصورة واقعية، فسيجد أن معظم المنتسبين إلى صفوفها هم من غير اللبنانيين. لقد بات هؤلاء يشكّلون الطبقة العاملة التي يحق لها الاحتفال بالأول من أيار، ولو أن معظم اللبنانيين يكابرون قبل الإقرار بأنهم ليسوا أرفع شأناً حتى ولو تحدّثوا بكل لغات العالم!