رلى إبراهيم – الأخبار
مرسوم رفع الرسوم على شاغلي الأملاك العمومية البحرية، أو بالأحرى المعتدين على طول الشاطئ اللبناني وبحره، سلك طريقه إلى التطبيق بعد نشره في الجريدة الرسمية أخيراً. المرسوم الذي أُعدّ لتمويل جزء من عجز الخزينة والزيادات المترتّبة عن تعديل رواتب موظفي القطاع العام لم يرق للحماة السياسيين للمتعدين على الأملاك العامة، رغم أن هؤلاء يفرضون رسوم دخول بالدولار الفريش إلى المنتجعات التي استولوا عليها، ويمتنعون، بغطاء سياسي وقضائي وبلدي، عن تطبيق القوانين التي تنصّ على حق أي مواطن بالوصول إلى البحر مجاناً. ثمة فرصة متاحة اليوم بخرق، ولو صغير، في ملف التعديات على الأملاك البحرية. إلا أن التخوف كالعادة من التدخلات السياسية التي منعت المسّ بحيتان الباطون منذ عشرات الأعوام. فتجربة الماضي القريب التي أعقبت صدور القانون 64/2017 لوضع اليد على جزء من التعديات لامتناع أصحابها عن تسديد المستحقات المتوجّبة عليهم، انتهت بتسوية الدولة لأوضاعهم وتفادي وضع اليد على التعديات بحجة عدم قدرة الدولة على إدارتها بنفسها!
في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، وبناءً على اقتراح وزير الأشغال العامة علي حمية، أُقرّ تحويل القيمة التخمينية لسعر المتر المربع، واللازمة لتحديد الرسم السنوي المُترتّب على الإشغال المؤقت للأملاك العمومية البحرية، إلى الدولار النقدي، إذ أقر المجلس المرسوم 11258 القاضي باحتساب سعر المتر المربع بالدولار على أساس سعر صرف 1507.5 ليرات، ثم ضربه بمتوسط سعر صرف السوق لليوم السابق لتاريخ إصدار رخصة الإشغال المؤقت للأملاك البحرية أو لتاريخ تجديدها. رغم ذلك، يصعب الاستنتاج بأن القرار قابل للتنفيذ.
قرار كهذا لا يمكن أن يكون خبراً سارّاً للمعتدين رغم أنهم يتقاضون رسوم الدخول بالدولار، بعد رفعها بشكل جنوني مقارنة مع الرسم القديم. علماً أن الحل البديهي والأمثل هو إزالة التعديات وإعادة الشاطئ إلى أصحابه، أي الناس، لولا أن الدولة بأجهزتها الأمنية وقضائها تخلّت عن مهمة وضع اليد على التعدّيات يوم سمح لها القانون بذلك عام 2020، وتمّت «لفلفة» الملف بحجة أحداث 17 تشرين وكورونا وما لحقهما من تمديد للمهل انسحبت على المعتدين (راجع «الأخبار» الجمعة 7 شباط 2020)، ولولا امتناع وزارة الداخلية على عهد الوزيرة ريا الحسن من الاستجابة لطلب وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس بإرسال القوى الأمنية لوضع اليد على إنشاءات المتخلّفين عن الدفع بحجة أن لا آلية لدى الدولة لاسترداد أملاكها ولا تملك القوى الأمنية العديد الكافي لتسلم هذه المساحات وإدارتها بالنيابة عن الدولة (راجع «الأخبار» الثلاثاء 3 كانون الأول 2019).
فعلياً لم يتضمن القانون 64 أي مراسيم تطبيقية للاسترداد ربما لأن الدولة نفسها لا تريد استعادة ملكها بل تعمل على «شرعنة» التعديات وإيجاد أطر قانونية لحماية مصالح المعتدين عليها. بعدها تضمّن البيان الوزاري لحكومة حسان دياب نصاً بـ«إعداد مشروع قانون يعدل في القانون الرقم 45 بتاريخ 21/08/2017 حول معالجة مخالفات الأملاك العامة البحرية وإعادة النظر في المراسيم المتعلقة بإشغال أملاك عامة بحرية وكل الأملاك العامة»، ما أوحى بأن الحكومة آنذاك، وبدلاً من استغلال الفرصة بإزالة تعديات من رفضوا (أكثر من 700 مخالف من أصل 1068 معتدياً) دفع الغرامات على الإشغالات رغم قيمتها المنخفضة، أمدّت هؤلاء بجرعة حياة جديدة عبر نسف مواد القانون 64/2017 على علّاته.
وكما استنفر السياسيون يومها من نواب ووزراء لمنع المسّ بحيتان الباطون، انتفض وزيرا الاتصالات والسياحة جوني قرم ووليد نصار خلال مناقشة القرار في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، إذ اعترض الوزير جوني القرم على رفع الرسوم سلباً على المسيحيين، باعتبار أن غالبية المؤسسات المرخّصة موجودة في المناطق المسيحية. فيما سجّل وزير السياحة نصار «فتحاً» غير مسبوق بصفته «ممثلاً عن كل المؤسسات السياحية الموجودة في المتن وكسروان»، لا بصفته الوزارية، معترضاً بشدة على رفع قيمة الإشغال في هذه المناطق دون سواها. رغم أن سردية نصار غير صحيحة ولا تشمل منطقة واحدة، لا يمكن تفسير غضبه إلا بحرص الوزير على مصالح المؤسسات السياحية التي تشكل غالبية الاعتداءات على الشاطئ. وهو لم يكتف بالاعتراض داخل الجلسة، بل قرّر أن يحمل اعتراضه إلى خارجها مطالباً بسحب المرسوم وعدم نشره في الجريدة الرسمية. ودعا في مقابلة متلفزة أصحاب المؤسسات المعتدية على الملك العام بعدم تسديد الرسوم والتمرّد على قرار مجلس الوزراء، بذريعة وجوب تشكيل لجنة مختصّة لإدخال «إصلاحات» على هذا القطاع. علماً أن الوزير حمية أوضح داخل الجلسة أن المتن وكسروان يخضعان للمعايير نفسها التي تخضع لها صيدا، ورسومهما أقل من رسوم بيروت ورأس بيروت.
الوزيران المعترضان لم ينبسا ببنت شفة دفاعاً عن المستهلكين عند إقرار الزيادة على رسوم وتعرفة الاتصالات، وزيادة الدولار الجمركي وغيرهما من الضرائب الإضافية.
وقد حصلت «الأخبار» على الجدول الملحق بالمرسوم والذي يحدد سعر المتر المربع المعدّل. وفيه أن سعر المتر في كسروان، مثلاً، يُراوح بين 597 دولاراً و1194دولاراً، في حين أنه يبدأ ببيروت من 1990 دولاراً في المدور، و2487 دولاراً في المصيطبة (الرملة البيضا) ورأس بيروت، ليصل إلى 4975 دولاراً في ميناء الحصن وعين المريسة، و5970 دولاراً في سوليدير. أما في قضاء المتن، فيبلغ سعر المتر المربع في ضبيه وأنطلياس 2388 دولاراً، وينخفض إلى 1990دولاراً في كل من جل الديب والزلقا وعمارة شلهوب، و961 دولاراً في المنطقة الصناعية في البوشرية وبرج حمود، ويرتفع في قضاء بعبدا ومنطقة الشياح إلى 4975 دولاراً شمالي فندق أبيلا و2487 دولاراً جنوبي الفندق، و1194دولاراً في منطقة الشويفات.
المطلوب تحرير الأملاك البحرية، والتجارب السابقة أكّدت دائماً قدرة المعتدين على الالتفاف على القوانين
المعترضون لا يزيّفون الوقائع فقط، بل يقدّمون مقاربة مغلوطة انطلاقاً من السعر القديم المحدّد بالليرة، والذي كان لا يتعدى بحده الأقصى في منطقة سوليدير الـ9 ملايين ليرة، للإيحاء بأن نسبة زيادة الأسعار تفوق 60%، ما سيدفع المعتدين على الأملاك العامة، إلى الامتناع عن الدفع، علماً أن معظمهم لم يسدّدوا ما يترتب عليهم بالأسعار السابقة. ومن بين المعترضين على هذه الزيادات التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.
في المقابل، توقّع وزير الأشغال أن تصل الإيرادات السنوية لهذه الإشغالات غداة رفع الرسوم الى ما بين 30 و40 مليون دولار أي 65 ضعفاً عمّا كانت عليه سابقاً. فوفق حمية، لم تتعدّ الإيرادات سابقاً 500 ألف دولار وهو مبلغ زهيد جداً مقارنة بحجم التعديات وأرباحها. لكن تشير مصادر حكومية إلى استحالة الوصول إلى إيرادات مماثلة، إذ لا يمكن التكهن بمدى التزام المؤسسات بهذه الرسوم الإضافية، وسط تعويل بعضها مجدداً على الالتفاف على القرار لتسوية وضعها بالطريقة نفسها التي التفّت من خلالها على القانون64/2017 قبل ثلاثة أعوام بغطاء من مؤسسات الدولة والأجهزة القضائية. علماً أنه عندما طالب حمية لدى مناقشة قانون الموازنة الأخير بإصدار قانون يتيح وضع ختم بالشمع الأحمر على كل من يمتنع عن الدفع لقاء إشغاله، رفضت غالبية النواب هذا الأمر. ووفقاً للتجربة السابقة، يصعب على وزارة الأشغال ضمان التزام الجميع إذا لم يكن ثمة تعاون ضمني من وزارتي المال والداخلية ومؤازرة من القضاء والأجهزة الأمنية.
أول مسح للشاطئ منذ 27 عاماً
يتحضّر وزير الأشغال علي حمية لإعداد دراسة جديدة تقوم على مسح الشاطئ من آخر نقطة في الجنوب إلى آخر نقطة في الشمال، ليعمل بعدها على تطبيق القانون لناحية وصل الشاطئ اللبناني من رأس الناقورة إلى العريضة. هذا الأمر في حال وصل إلى خواتيمه، يكون خرقاً استثنائياً في ملف التعديات على الشاطئ، إذ إن كل المعتدين على الأملاك العمومية البحرية عمدوا إلى تسييج إنشاءاتهم وإقامة حواجز إسمنتية ومتحرّكة خلافاً لكل القوانين والمراسيم. بعض هذه الحواجز يعود إلى عشرات السنوات وبعضها حديث، إلا أن أحداً في الدولة لم يعمد إلى محاسبة هؤلاء وردعهم، لا بل كل ما كان يحصل هو بغطاء من الدولة وبتواطؤ من البلديات. علماً أن أحد شروط منح أي ترخيص، باستثناء تشريعه البناء على الشاطئ، هو ألا تشكل هذه الإنشاءات عائقاً أمام وحدة الشاطئ أو أن تمنع المواطن من حقه الطبيعي بالوصول إليه. غير أن الأجهزة الأمنية، أو بالأحرى الوزارات الوصية على الأجهزة الأمنية كما البلديات، امتنعت عن ضمان حق المواطن بالوصول إلى الشاطئ، أي شاطئ، لا بل حرصت على الحفاظ على مصلحة المعتدين وضمان عدم إزعاجهم. وبحسب حمية، فإن الخرائط الرسمية التي يعمل وفقها الجميع اليوم هي الخرائط الناتجة عن مسح أجراه الجيش ما بين عامَي 1994 و1996. أما الباقية فكلها تقارير غير رسمية، لذا سيكون هذا المسح هو الأول بعد 27 عاماً وسيكشف عن الأرقام الدقيقة للمساحات المُعتدى عليها، ذلك أن المعتدين لم يكتفوا بالمساحة المحدّدة لهم إنما قامت غالبيتهم بالتوسع خارج حدود التعدّي الأساسي.
الكلّ متعدٍّ من دون استثناء
ثمّة مسألة أساسية يتضمنها المرسوم 11258، إذ ينص على أن الاحتساب سيتم وفقاً لسعر السوق السوداء «في اليوم السابق لتاريخ إصدار رخصة الإشغال»، وهو ما دفع البعض إلى محاولة التخفيف من وطأة هذا الإجراء بالقول إن الرسوم المعدّلة ستشمل فقط المؤسسات المرخّصة. وبحسب دراسة لـ«الدولية للمعلومات»، بلغ حجم التعديات على الشاطئ نحو 4.9 ملايين متر مربع، بينها 2.4 مليون متر مربع مرخّصة تشغلها 73 مؤسسة فقط. أما الـ2.53 مليون متر مربع الباقية فغير مرخّصة وتضم نحو 990 مؤسسة. الا أن وزير الأشغال علي حمية يؤكد أن «الكل معتدون وإشغالاتهم تحمل صفة التعديات على الملك البحري. ولا يحظى أي منهم بأي ملكية على البحر، علماً أن تراخيصهم تُجدد سنوياً». ويضيف: «ما في مرخّص ومش مرخص. الكل متعدٍّ، والتعدّي هذا أتى على ذكره القانون 64/2017 عند حديثه عن إشغال مؤقت غير قانوني».