مع انهيار الطبقية في أوروبا وتغير الوضع في الدولة الحديثة، وتم استيعاب الجماعات الوظيفية اليهودية التي كانت أداة انتاج في يد الحاكم، وكانت المواثيق التي يمنحها لهم تنص على أنهم ملكية خاصة له، وكانوا أداة تتحدد من خلالها علاقات الإنتاج؛ كأداة لجمع الضرائب، ولزيادة معدلات الربا. وكان وجود أعضاء الجماعة اليهودية داخل الغيتو، بمعزل عن بقية المجتمع، تعبيرا عن الوضع الذي يتحدد من خلال الوظيفة خارج السلم الطبقي، وكان المجتمع ككل ينظر إلى أعضاء الجماعة اليهودية لا باعتبارهم أثرياء أو فقراء، أو فلاحين أو نبلاء، وإنما باعتبارهم مادة بشرية تضطلع بوظيفة التجارة والربا.
ويمكن القول إن عدم انتماء الجماعات اليهودية الى طبقة محددة وتحولهم الى جماعات وظيفية هو ما يفسر كحركة استعمارية، ويفسر أيضا لماذا كان التغلغل الصهيونية في فلسطين استعمارا عميلا. تاريخيا، شكل العبرانيون جماعة وظيفية، حيث كانوا رحلا وكانت المجتمعات المختلفة تجندهم لخدمتها، ورغم اشتغال كثير منهم بالزراعة والحرف التقليدية في عصر القضاة والمملكة العبرانية المتحدة، وبعد التهجير البابلي، فقد تزايد استخدامهم كمرتزقة، وتشكل أو دياسبورا يهودية استيطانية قتالية في جزيرة إلفنتاين لحماية مصر الجنوبية لصالح الفراعنة، واستمر هذا الوضع في مصر البطالمة وسوريا السلوقية.
وحديثا، في فلسطين تحول معظم اليهود الذين نبذتهم الحضارة الأوروبية الى جماعة وظيفية قتالية استيطانية تخدم الدول الغربية بمهن طفيلية، وبعد قيام الكيان المؤقت لم تفلح الصهيونية في تطبيع الشخصية اليهودية كما زعمت، ولم يتحول اليهود من جماعات وظيفية طفيلية الى شخصيات منتجة.
لقد كانت علاقات الجماعات اليهودية بالمجتمع الغربي علاقة نفعية تعاقدية، لا تقوم على التراحم، وكان أعضاء الجماعات اليهودية في أوروبا يعيشون في غيتوات منعزلة، ولهم ملبسهم الخاص، ويؤمنون بعقيدة مختلفة عن عقيدة الأغلبية، وبعض الأحيان يتحدثون لغة خاصة بهم كاليديشية. وأداة عملهم كعملاء وجباة ومرابين إلى زيادة غربتهم وعزلتهم عن الجماهير التي عاشوا بينها.
لقد اختلفت أنواع الجماعات الوظيفية اليهودية ومنها: الاستيطاني، والمالي، ويمكن أن تتخصص الجماعة الوظيفية بأي نشاط حسب الظروف التي تدفعها لذلك.
فالجماعة الوظيفية الاستيطانية جماعة بشرية تستجلب من خارج المجتمع، أو تجند من داخله، ثم تنتقل إلى مكان آخر لتوطن فيه، بغرض تأدية وظيفة محددة ذات طابع قتالي عادة، أو زراعي أو تجاري، أو مختلط؛ زراعي قتالي… وهكذا، أما الجماعة الوظيفية القتالية، فهي التي تؤدي دورا قتاليا وحسب ، فالجندي المرتزق هو الجندي الذي يستجلب من خارج المجتمع أو يجند داخله، من إحدى الأقليات، ويقوم بالقتال مقابل المال أساسا، وتتحدد علاقة المجتمع بالجماعة القتالية الوظيفية كعلاقة نفعية تعاقدية، ومن ثم ينظر إليها كأداة تساهم في تنظيم عمليات قتالية محددة في خدمة السلطان، وهم لا ينتمون إلى المجتمع.
ويلاحظ أن أوروبا والغرب بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر في العالم العربي يحول اليهود المستعربة إلى جماعة وظيفية استيطانية تدين له بالولاء، بغض النظر عن أصولهم العرقية والحضارية.
والكيان المؤقت لا يخرج عن هذا النمط، فهو جماعة وظيفية استيطانية قتالية على هيئة دولة، وقد تم توقيع عقد بلفور بين أوروبا والمنظمة الصهيونية العالمية، وجرى نقل من يرغب من اليهود إلى فلسطين ليصبح عنصرا استيطانيا قتاليا، يدافع عن المصالح الغربية، نظير مستوى معيشي مرتفع، ولم يطلق عليهم مصطلح “مرتزقة” على هؤلاء الصهاينة، لأنه يحمل انطباعات مزعجة، ولكنهم أطلق على أنفسهم مصطلح “حالوتسيم” أو “الرواد”، وهم يمشون في مقدمة الصفوف العسكرية، علما أن الكيان المؤقت هو قلعة على حدود أوروبا في الشرق. وفي هذا السياق لا ينظر إلى الكيان المؤقت إلا في حدود نفعه وفائدته لمصالح الممول الغربي، فهو يوصف بأنه ثروة استراتيجية، أو حاملة طائرة أميركية… إلخ، وفي جميع الأحوال فهو وسيلة وأداة وحسب.
وقد لوحظ أن آلاف الإسرائيليين يعملون كمرتزقة في بعض دول العالم الثالث، كخبراء عسكريين، بدءا كطيارين في جنوب أفريقيا، وانتهاء بالمظليين في زائير، ويوجد في الكيان المؤقت شركات خاصة مثل شركة “ليفدان”، يديرها جنرالات سابقون توظف في صفوفها أفرادا سرحوا حديثا من الجيش الإسرائيلي، وقد قال مسؤول من الشركة بأن ما تفعله لا يختلف عما تفعله الحكومة الإسرائيلية لسنوات طويلة.
وهناك الجماعة الوظيفية المالية وهي الجماعة التي يضطلع أعضاؤها بوظائف مالية مختلفة مثل الربا وجمع الضرائب، ولقد كان الإقراض اليهودي في معظمه في أوروبا ربويا، ولذلك ارتبطت صورة اليهودي بالمرابي في العقل الأوروبي، وفسر هذا الميل الربوي الأزلي لليهودي نحو امتصاص دماء الآخرين.
لا بد من أن تم ظهر الجماعات اليهودية بجماعات وظيفية جعلها تلعب أدوارا خفية كثيرة جعلت من اليهود قوة خفية تتحكم بمصاير شعوب ودول.
الكاتب: نسيب شمس