عيون الشعوب العربية والاسلامية ومعها أحرار العالم، ترقب هذه الأيام والساعات سماء فلسطين، وفي قلوبها لهفة لا توصف الى غزة الأبية، وهي تثأر لأحرارها الشهداء، وتستل سيف قدسها من جديد. ليست عيونها وقلوبها فحسب، بل ألسنتها تلهج بالدعاء، تهلل وتكبر، لمقاومتها الفلسطينية، مع كل رشقة صاروخية تهز الكيان الغاصب، وتحطم “درعه” الذي لطالما تباهى به، فسحقته المقاومة اللبنانية بـ”مجزرة الميركافا” في تموز 2006 وتسحق “قبته الحديدية” وتكسر حربة “سهمه” مقاومة غزة كل يوم.
ليست شعارات أو مشاعر جياشة، تفيض على بحر غزة، تلك وقائع أظهرتها ساعات وأيام رد المقاومة منذ بداياتها بل حتى قبل بدايتها، حينما تمهلت الرد، ووضعت كيان العدو بحكومته وجيشه ومستوطنيه، في حالة ترقب وانتظار، وهو تكتيك جديد إتبعته المقاومة الفلسطينية للمرة الاولى، فحرقت أعصاب جنود العدو ومستوطنيه وأرعبتهم بصمتها، حتى قبل أن تطلق رصاصة أو صاروخ واحد.
تكتيك الحرب النفسية هذه ما لبث أن تكرر مجددًا في غضون ساعات قليلة، بتوسيع ساحة المعركة وشعاعها وبكثافة النيران، ومن ثم بنشر “سرايا القدس” صورة شهدائها القادة الثلاث (خليل البهتيني “أبو هادي”، جهـاد الغنام “أبو محمد”، طارق عز الدين “أبو محمد”) الى جانب صورة الشهيد الشيخ خضر عدنان، مذيلة بعبارة “تاسعة البهاء رعب حاضر في ثأر الأحرار” بجانب راجمة صواريخ كتب عليها عبارة “شعاعنا ليس له حد”، ليكون هذا الموعد ليل الاربعاء موعدًا لضربة صاروخية من العيار الثقيل، عيار “بدر 3” الايراني، برأس حربي يزن ما بين 350 و 500 كليوغرامًا، ما أحدث دمارًا هائلاً في مستوطنات العدو، لتكون الرسالة الصاروخية الضخمة التي أتبعت بفيديو حول عملية الاطلاق وحجم الصواريخ التي أطلقت رسالة بحجم الثأر لشهداء قادة “السرايا الاحرار”، غايتها تكريس معادلة رادعة للعدو عن استباحة غزة وحامية لكوادر المقاومة ومانعة إياه من اغتيالهم.
أما الرسالة الثانية من هذا الرد المنفصل لـ”سرايا القدس” عن الردود التي سبقته أو لحقته والتي قامت بها غرفة المقاومة المشتركة، فتحمل دلالات وبصمات رد ولي الدم، دون ان يعني ذلك أن الرد أتى بمعزل ودون تنسيق مع رد الغرفة المشتركة، التي استأنفت أولى ردودها منتصف الاربعاء، وفي وضح النهار، وفي ذلك جديد بعدما كانت ردود الجولات السابقة تنطلق في الليل، فضلاً عن أن الرد المشترك أفشل رهانات ومحاولاته للاستفراد بحركة الجهاد الاسلامي في الميدان، والنيل منها ما يسهل عليه النيل من الفصائل الأخرى في مراحل قادمة.
من هنا نفهم لماذا انصب تركيز جيش العدو على “سرايا القدس” تحديدًا، باستهداف مجموعاتها واغتيال قادتها العسكريين (ومنهم مسؤول الوحدة الصاروخية الشهيد القائد المجاهد علي حسن غالي “أبو محمد”، الذي ارتقى فجر الخميس)، وذلك في محاولة واضحة منه لكسر يد حركة “الجهاد الاسلامي” الضاربة، التي رغم أنها تلقت ضربة قاسية باغتيال قادتها الاربع في غضون يومين، لكنها ثبتت في الميدان ومنعت العدو من تغيير المعادلات، وأثبتت أنها قادرة على مواصلة قصف عمق الكيان الصهيوني بالصواريخ حتى ولو سقط كل أعضائها وقادتها شهداء، كيف لا وهي تسير على خط وفكر مؤسسها الشهيد القائد فتحي الشقاقي، الذي كان يردد دومًا أن :”دم الشهداء هو الذي ينجب المزيد من المقاتلين ويصعّد المواجهة ضد الاحتلال”.
أمام بسالة المقاومة، وشلها لكيان العدو على كافة الصعد بشكل شبه كامل، وتعطيلها لحركة الملاحة الجوية في مطار بن غوريون في “تل ابيب”، بدا فشل العدو جليًا أولاً من خلال عدم تمكنه من امتلاك زمام المبادرة، واكتفائه بتوجيه ضربته ومن ثم ترقب رد الفعل، الذي برعت المقاومة بتحويله الى فعل، وثانيًا من خلال اقتصار جيش العدو على العدوان الجوي والاغتيالات الغادرة، وعدم الجرأة على الدخول بعملية برية الى غزة، لكونه يعلم حجم الخسائر التي سيتكبدها، فضلاً عن اتباع العدو سياسة اضرب واهرب، إذ يقوم بالاعتداء والاغتيال ومن ثم يسارع الى ادخال وسطاء عرب كمصر وقطر للتفاوض، في محاولة للالتفاف على المقاومة والضغط عليها لاحتواء الموقف وتجنب التصعيد، أو حصر رد المقاومة قدر الامكان، كونه لا يحتمل ردًا يطيل أمد المعركة.
نقطة أخرى، بدا فشل جيش العدو فيها واضحًا وهو تمكن المقاومة في غزة من تضليل القبة الحديدية التي كانوا يتباهون بنجاحها بالتصدي للصواريخ بنسبة 90 بالمئة، لتثبت الجولة الدائرة حاليًا، وباعتراف العدو نفسه تراجع جدوى هذه المنظومة، وإن حاول تغليف ذلك بالحديث عن “خلل تقني” أحيانًا، الا أن الحقيقة مغايرة تمامًا وهي ان العدو لا يريد أن يقر للمقاومة تسجيلها إنجاز جديد، بتمكنها من تجاوز القبة الحديدية ما جعلها تحقق اصابات مباشرة في صفوف جنوده ومستوطنيه رغم إجلاء الآلاف منهم من مستوطنات ما يسمى بـ”غلاف غزة”.
ولا شك أن هذا النجاح للمقاومة الفلسطينية هو نجاح كبير، يحسب لها، لا سيما بظل عدم التكافؤ المادي بين الطرفين، وتمكن المقاومة رغم ذلك بصواريخ مصنوعة محليًا بكلفة مئات الدولارات من أن تشكل تهديداً للقبة الحديدية التي أنفق عليها مئات ملايين الدولارات بتمويل من الولايات المتحدة، إذ تبلغ تكلفة كل صاروخ اعتراض منها نحو 50 ألف دولار. ولعل هذا الفشل في الاعتراض هو ما دفع بالعدو الى اللجوء للمرة الاولى الى تفعيل منظومة “مقلاع داود” التي يكلّف مقذوفها الاعتراضي مليون دولار لإيقاف صاروخ كان متوجها نحو منطقة مأهولة في “تل أبيب”.
اطمئنان الصهاينة هذا وتباهيهم بأداء منظوماتهم الدفاعية جعلهم ينامون على حريرها حتى فاجأتهم المقاومة وقضت مضاجعهم بتجاوز صواريخها لمنظوماتهم، ما دفعهم للتساؤل عن أسباب إخفاقات قبتهم، وما إذا كانت المقاومة الفلسطينية طورت صواريخها الى حد أنها باتت قادرة على اختراق “درع القبة الحديدية”.
خلاصة الأمر، يبدو واضحًا ان جيش الاحتلال لم يتعلم من التجارب السابقة بالمواجهة مع غزة، وهو يكررها من جديد، لكنه سيخيب مجددًا، لعدم قدرته على حسم هذه الجولة كما الجولات السابقة من الجو، ولعدم قدرته على تحمل معركة طويلة تستمر لأيام، ما سيجعله يستجدي الوساطات من تحت الطاولة، للهروب من هذه المواجهة، لا سيما وأنه يعلم ان هامش المناورة أمامه بات يضيق، وان محور المقاومة مستنفر ويتابع ما يجري في غزة، وجاهز لمساندة المقاومة الفلسطينية اذا ما تطورت المعركة في اللحظة المناسبة، وبالطرق الملائمة.
الكاتب: علي عوباني