صحيفة الأخبار
غزة | ارتفعت أخيراً، في إسرائيل، وتيرة التهديدات والتحذيرات الموجّهة إلى «حزب الله» وإيران، ومختلف قوى «محور المقاومة»، إلى مستوى ربّما يكون غير مسبوق في السنوات الأخيرة، حتى ساد شعور في الكيان بأن الحرب وراء الباب. ودفع ذلك المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي لاحقاً، إلى التوضيح أن «كلام رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش، هرتسي هاليفي، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، أهارون حليفا، لا يعني أن الحرب على الأبواب». كما تغيّرت نبرة المحلّلين والمعلّقين الذين صاروا أكثر ميْلاً إلى اعتبار التهديدات الصادرة عن قياداتهم الأمنية، محاولات للردع، وليست إيذاناً بالمبادرة. وعلى رغم أن رسائل التهديد الإسرائيلية، جاءت بنتائج عكسيّة على الكيان والمستوطنين، حيث ارتفع سعر الدولار أمام الشيكل مثلاً، وساد توتّر شديد في أوساط الجمهور، إلا أن ذلك لا يعني أن هذه التهديدات أتت من فراغ.
ترى المنظومتان الأمنية والسياسية في تل أبيب، أن الأزمة المتفاقمة في الكيان، والتي يبدو إلى الآن أن لا أفق إيجابيّاً لها، بالنظر إلى فشل جولات الحوار بين الحكومة والمعارضة في التوصّل إلى أي حلول، شكّلت منعطفاً في طريقة تفكير قوى «محور المقاومة». إذ وجدت هذه القوى، وعلى رأسها «حزب الله»، في الأزمة نقطة ضعف جوهرية، يجدر استغلالها والبناء عليها. ولعلّ نجاح الائتلاف الداعم للحكومة في «الكنيست»، خلال الأيام الماضية، في إقرار موازنة عامّة ترفضها المعارضة بشدّة، سيزيد من التوتّر السياسي، ما يفاقم المشكلة ويطيل أمدها، خصوصاً أنه لا يبدو خيار التراجع عن إقرار قوانين «الخطة القضائية»
ويبدو واضحاً أن عملية مجدّو، التي يزعم العدو أن «حزب الله» مسؤول عنها، لا تزال حاضرة بشكل كبير في ذهن القادة العسكريين والأمنيين في الكيان، والذين يرون فيها بدايةً عمليّةً لمسار مختلف يدشّنه الحزب، عنوانه تنفيذ عمليات داخل الأراضي المحتلّة، أو على السياج، ما يرفع التحدّي أمام العدو إلى مستوى غير مسبوق منذ عملية الأسر في تموز 2006. وخلال المؤتمر النسوي الذي ينظّمه «معهد هرتسيليا»، حذّر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش (أمان)، أهارون حليفا، من أن فرص اندلاع تصعيد مع «حزب الله»، هي «أكثر ارتفاعاً مما مضى»، وقال إن الحزب «يقترب من خطأ قد يؤدّي من جديد إلى حرب، كما حدث عام 2006». وفي حين لم يذكر حليفا ماهيّة «الخطأ» المزعوم، إلّا أن السياق يوضح اعتقاد قادة العدو بأن المقاومة في لبنان قد تكون في صدد تنفيذ عمليات أخرى، تشبه عملية مجدّو.
كما يتساوق مع المسار الجديد المفترض لدى «حزب الله»، مسار آخر على مستوى «محور المقاومة»، يشكّل بنظر العدو هو الآخر تحدّياً جوهرياً جديداً، وهو مسار «توحيد الساحات»، في الشمال والجنوب، وساحات أخرى أبعد. وهذا ما أشار إليه وزير الجيش، يوآف غالانت، في المؤتمر، حين قال إن لدى أعداء إسرائيل «توجّهاً واضحاً لتوحيد الساحات (…) في غزة والضفة ولبنان وسوريا، والرابط الوثيق بينها هو إيران».
البحث عن «الفرصة»
خلال مؤتمر «هرتسيليا»، الأسبوع الفائت، حذّر رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، من أن «تعزّز حزب الله بشكل كبير في لبنان يشكّل تحدّياً هائلاً». واعتبر أن على إسرائيل أن تعمل في اتجاهين: توسيع الفجوة بين قدراتها وقدرات عدوّها، وأن تدرس دوماً التوقيت المناسب لمبادرة يمكن أن تحقّق «التفوّق». وهذا «المنطق» في التفكير لدى هاليفي وقادة الجيش، تعزّز بشكل كبير بعد عملية «درع وسهم» التي نفّذها العدو في قطاع غزة الشهر الماضي، والتي اقتضت خطتها المبادرة إلى تنفيذ اغتيالات دموية ومركزية، تمسّ مفاصل الجسم العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، بالتوازي مع استعداد إسرائيلي على طول خطّ الجبهة، وكذلك في الجبهة الداخلية، لاستيعاب ردّ الفعل، والتدرّج في التصعيد في مقابل ردّ المقاومة الفلسطينية، وصولاً إلى تحقيق وقف إطلاق النار، مع أقلّ قدر من الخسائر. وقد نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية، حينها، عن مسؤولين كبار في الكيان، قولهم إن هذا السيناريو (درع وسهم) يمكن «استنساخه» في ساحات أخرى، ما دفع سريعاً إلى الواجهة تفسيرات أجمعت إلى حدٍّ ما، على أن التهديد موجّه إلى لبنان، سواءً عبر تنفيذ اغتيالات لقادة «حزب الله»، أو لمسؤولي المقاومة الفلسطينية على الأراضي اللبنانية، ما يعني بالتالي كسر خطّ أحمر تجنّبه العدو طوال السنوات الماضية، بفعل معادلات الردع التي تفرضها المقاومة في لبنان. وعاد غالانت إلى تأكيد التوجّه المتقدّم في كلمته في «هرتسيليا»، حيث أعلن «أن ما فعلته إسرائيل في قطاع غزة ضدّ الجهاد الإسلامي، قادرة على أن تكرّره ضدّ آخرين في غزة وفي كلّ ساحة أخرى».
هذه أول مناورة كبرى تحاكي خوض حرب كاملة على عدّة جبهات في وقت واحد
الردعُ نسبيّ
خلال المؤتمر نفسه، تحدث هاليفي عن ما سماه «الردع النسبي»، واعتبر أن حزب الله «مردوعٌ جداً عن حرب شاملة ضد إسرائيل، وهو يعتقد أنه يفهم كيف نحن نفكّر، وهذا يقوده إلى الجرأة في تحدّينا بأمور يثق هو أنها لن تؤدّي إلى حرب». وبناء على ذلك، يعتقد العدو أن هامش التحدّيات، وكذلك الفرص، بالنسبة له، آخذ في الارتفاع. وفي هذا الإطار، يقول هاليفي إنه يرى هنا «سكّة جيّدة لخلق مفاجآت عند الحاجة»، و«المفاجآت» المفترضة، والتي يريد التلميح إليها، قد تكون عبارة عن ردود أفعال غير متناسبة على عمل ما ضدّ إسرائيل، تنفّذه المقاومة، أو تشارك فيه، أو تغضّ النظر عنه، كما قضية إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان، بحسب ما خلص إليه المراقبون الإسرائيليون.
الميدان والمناورات
في الميدان، حافظت قوات العدو في المنطقة الشمالية على جاهزية عالية، ولكن غير استثنائية. كما رفعت من وتيرة الإجراءات الميدانية الحدودية، والتي تعتقد أنها كفيلة بعرقلة عمليات مفترضة للمقاومة على الحدود أو خلفها. وبعدما شرعت خلال الشهور الماضية في استكمال إغلاق الثغرات في السياج التقني ومواقع كثيرة، ذهبت خلال الأيام الفائتة إلى حفر خندق طويل، وبعمق مترين، في الأراضي اللبنانية المحتلة في كفرشوبا، أمام السياج مباشرة، وذلك في سياق أعمال هندسية يعتقد العدو أنها تقيّد إمكانية تسلّل مقاومين لتنفيذ عمليات خاطفة وسريعة. كذلك، يُجري الاحتلال حالياً مناورة غير استثنائية أيضاً، أسماها «القبضة الساحقة»، وتحاكي المناورة، التي من المتوقّع أن تمتدّ على أسبوعين، وتتركّز في المنطقة الشمالية، خوض حرب ضد «حزب الله» في لبنان بشكل أساسي، مع إمكانية أن يتوسّع القتال إلى عدة ساحات أخرى، كسوريا وقطاع غزة، وحتى الضفة الغربية، وفي سيناريو متطرّف إيران. والواقع أن هذه هي أول مناورة كبرى تحاكي خوض حرب كاملة على عدّة جبهات في وقت واحد، وهو أحد التحدّيين الأساسيين اللذين يرسمان معالم التقدير لدى قيادة العدو، إضافة إلى تحدّي العمليات الأكثر جرأة وخطورة، والتي من الممكن أن ينفّذها «حزب الله». وعلى رغم أن توقيت التدريبات خدم بطريقة جيّدة التهديدات التي سبقتها ببضعة أيام فقط، إلا أنها لم تُقرّ بسبب مستجدّات عاجلة، بل تمّ التخطيط لها قبل عدة أشهر.
رسائل ردعية
تأتي التهديدات الإسرائيلية القديمة – الجديدة للجمهورية الإسلامية، في سياق ردعي أيضاً، يهدف إلى دفع إيران إلى التخلّي عن طموحات مُفترضة، للوصول إلى القنبلة النووية. وتسجَّل زيادة لافتة في جرعة التهديد، بأن لدى إسرائيل القدرة الكافية، منفردة، على توجيه ضربة عسكرية ثقيلة لبرنامج إيران النووي، من دون الحاجة إلى الدعم الأميركي على المستويين السياسي والعسكري. والظاهر أن العدو يحاول توجيه رسائل ردعية مباشرة وواضحة إلى قادة قوى «محور المقاومة»، وقد وجد قادته الأمنيون والعسكريون في «مؤتمر هرتسيليا»، فرصة مناسبة لتوجيه هذه الرسائل، على اعتبار أن المؤتمر عادة بتغطية إعلامية استثنائية. وساند المستوى السياسي، نظيره الأمني، عبر الإعلان عن دعوة وُجّهت إلى وزراء الحكومة، لعقد جلسة تتعلّق بالجبهة الشمالية، أي في مقابل لبنان وسوريا، لإطلاعهم على آخر المستجدّات الأمنية، وعلى التهديدات والمخاطر المحدقة، وكذلك على الإجراءات الإسرائيلية. وإذ انعقدت هذه الجلسة أول من أمس من دون أن ترشَح عنها أي معلومات أو مواقف لافتة، فإن حملة التهويل الإسرائيلية تبدو في معظمها هادفة إلى ردع «العدو» عن خطوات يَفترض العقل الإسرائيلي أن إيران أو «حزب الله» بشكل خاص، في صددها. كما يبدو احتمال أن تكون هذه التهديدات تمهيداً لعمل عدائي ما، منخفضاً، خصوصاً أنه ليس من الحكمة في شيء، تحذير العدوّ بشكل فاقع، قبيْل مهاجمته، تحت طائلة خسارة عنصر المفاجأة، أو «التفوّق» بحسب تعبير هاليفي.