كتبت النهار
الذين تابعوا من زمان المسيرة السياسية لآل فرنجية على الصعيد الوطني والمسيحي لاحظوا في الجانب الإقليمي من خطاب الرئيس الراحل سليمان فرنجية أنه بعد مقتل نجله طوني كان يركّز دائماً في ندوته الصحافية الأسبوعية على موضوعين: الأول عروبة المسيحيين ولبنان، والثاني تحالفه الوثيق مع سوريا منذ 1970 بقيادة الرئيس (الراحل) حافظ الأسد. في هذا المجال لا يذكر اللبنانيون أنه اعتبر “حزب البعث العربي الإشتراكي” بقيادة الأسد الأب حزبه أو أنه اعتبر نفسه وعائلته ومناصريه في زغرتا والزاوية منتمين الى الحزب المذكور. لكنهم يذكرون أنه منذ 1978 أظهر عروبته وعروبة عائلته والمسيحيين عموماً بقوة وأسبوعياً في كل تصريحاته الإعلامية كما بعد اللقاءات التي كان يعقدها مع سياسيين لبنانيين وحتى مع ديبلوماسيين عرب وأجانب في أثناء زياراتهم له. ويذكرون أيضاً أن عداءه لإسرائيل ترافق مع تحالفه مع سوريا الأسد و”البعث” إذ كان يكرّر مقولة اعتبروها ثابتة في عقله وقلبه هي الآتية: “عدو جدّك لا يودّك”. وأرجّح وإنْ من دون تأكيد كون علاقتي بالرئيس فرنجية وعائلتيه الصغرى والكبرى كما بعائلات زغرتا الأخرى لم تكن عميقة رغم قرابتي العائلية مع معظمها الناجمة عن زغرتاوية والدتي رحمها الله، أرجّح أن يكون فرنجية الأب قصد “بعدو جدّك” اليهود لصلبهم المسيح، ولا سيما بعدما نجحوا في إقامة دولة لهم في قلب العالم العربي على أرض اغتصبوها من الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين، وهدّدت شعوبه ودوله وقضمت الكثير من أراضي الدول المحيطة بها منذ تأسيسها. هذا موقف لا أعتقد أن لبنانياً في أعماقه لا يعتبره صحيحاً. أما حفيده سليمان الذي مارس السياسة منذ شبابه المبكر خلفاً لوالده نائباً ثم وزيراً والمرشّح جدياً الآن لرئاسة الجمهورية بتأييد من “الثنائي الشيعي”، فإنه لم يختلف عن جدّه في موقفه السياسي والإقليمي والداخلي. لكن تعبيره عنه يختلف. فهو ومنذ بدايته السياسية يشدّد على أنه مع “سوريا الأسد” ومع “الخط” الذي رسمته، لكن أحداً لم يسمعه يوماً يقول إنه مع سوريا “البعثية” وإنه مع “الوحدة والحرية والإشتراكية” وهو شعار الحزب الذي أسّسه ميشال عفلق وانتمى إليه منذ نعومة أظفاره الرئيس (الراحل) حافظ الأسد. لكن “الخط” الذي لطالما تحدّث فرنجية الحفيد عن التزامه به فكان ينطوي الى “أسديته” على العروبة. ولعل أبرز دوافع الإنتماء الى “الأسدية”، الى حماية العائلة والدور، كان حماية المسيحيين في لبنان بواسطة حزب تقوده عائلة مسلمة أقلوية كما تقود حزباً عربياً يضم “الغالبية المسلمة” في العالم العربي ويعبّر عن طموحاتها.
في هذا المجال يخطر على البال سؤالان مهمان. الأول هو: كيف كانت العلاقة بين الثلاثي “القائد للجبهة اللبنانية” أي الرئيس كميل شمعون والرئيس سليمان فرنجية ورئيس “الكتائب” بيار الجميل والعلاقة بين نجل فرنجية طوني ممثله أحياناً كثيرة في اجتماعاتها والنجل الثاني للجميل بشير؟ أما السؤال الثاني فهو: ألم يشعر فرنجية الرئيس منذ بداية حرب 1975 سواء من خلال المعلومات الواردة إليه من أجهزة الدولة كما من التواصل مع أركان “الجبهة”، ألم يشعر أو يرَ أو يلمس أن علاقات وثيقة كانت تتأسّس بين الحزبين المسيحيين الأكبر “الوطنيون الأحرار” و”الكتائب” وإسرائيل، كما مع منظمات سياسية – كما بين الأخيرة ومنظمات سياسية – عسكرية مسيحية أخرى صغيرة؟ وإذا كان شعر أو لمس أو تأكد من كل ذلك فلماذا لم يبادر الى مغادرة “الجبهة اللبنانية” والتموضع سياسياً في مكان آخر مناهض؟
الحقيقة أنني لا أدّعي امتلاك جواب معلوماتي واضح ومحدّد وتفصيلي عن تلك المرحلة للأسباب التي ذكرت أعلاه، كما لحداثة عملي الصحافي. لكن لا شك في أن فرنجية الرئيس كان يعرف بتأسيس علاقة جديّة مع إسرائيل وربما لم يكن يعرف مدى عمقها. وكان يعرف ويواكب إتصالات مسيحية بواسطة “الجبهة اللبنانية” مع سوريا حافظ الأسد. وكان ينتظر نتائج كل ذلك لأن ما كان يقلقه في حينه مصير لبنان الذين شكّل الفلسطينيون خطراً عليه في حينه ولا سيما بعدما استنهضوا المسلمين اللبنانيين للمطالبة بحقوقهم الوطنية، وأيضاً المصير المهدّد للمسيحيين. وهو ربما كان يفضّل علاقة جيدة مع آل الأسد الذين حاولوا استمالته قبل انتهاء رئاسته بعد نجاح زغرتا في صد الهجمات الفلسطينية عليها المدعومة من دمشق. لكن “الأحجام” لم تكن تسمح بذلك. إلا أنه عندما رأى إخفاق تفاهم بين دمشق والمسيحيين وميلهم الى إسرائيل آثر التخلّي عن “الجبهة اللبنانية” والإعتصام في معقله زغرتا مع “المردة” ولا سيما بعد انتهاء رئاسته، والباقي معروف. أما دوافعه الفعلية لذلك فكانت إدراكه أن حزب “الكتائب” الذي يعتبره مسيحيو الأطراف ولا سيما حيث تسيطر عائلات سياسية إقطاعية أنه سيخلّصهم منها ويُرسي حرية عمل سياسي جدّية، ليس في هذا الوارد ربما لاقتناعه بأن الوقت في حينه كان للتحرير ولتوحيد البندقية من أجل ذلك وليس للحرية والديموقراطية. وقد مارس “الكتائب” هذا الإقتناع بدموية في الشمال الزغرتاوي كما في المناطق المسيحية المحرّرة الواقعة بين كفرشيما والمدفون. ولا أحد يعرف بعد مقتل الشيخ بشير الجميل إذا كان هذا الحزب سيؤسّس ديموقراطية فعلية يمارسها بحرية مواطنوه المسيحيون والمسلمون.
هل أخطأ قادة عائلة فرنجية في خياراتهم؟ وهل أخطأ القادة المسيحيون الآخرون الذين سيطروا على “الشرقية” كما كانت تُسمّى في الخيارات أيضاً؟ الحقيقة أن القادة من الفريقين أخطأوا. فهم كانوا صادقين في الخوف من خطر على المسيحيين لكنهم لم يتمكّنوا من وضع خطة واضحة لمواجهة ذلك الأمر الذي دفعهم الى الإختلاف فالإقتتال، وهم كانوا صادقين في عدم الإيمان بالقيادة الجماعية وفي المحافظة على النفوذ والسلطة سواء كانا لعائلة أو لحزب أو لزعيم أو لميليشيا.
ماذا عن مسيحيي “الجبهة اللبنانية” بعد تلك المرحلة؟