كتبت النهار
الجنرال” ميشال عون هو التجربة السياسية الأكثر تعبيراً عن الضرر الذي يلحقه رئيس الجمهورية الشعبي في أوساط طائفته ومذهبه بل شعبه به بل بالدولة ومؤسساتها الدستورية والسياسية، كما بأمنها واستقرارها واقتصادها وعملتها الوطنية وراحة أبنائها. ذلك أن طموحه الى الرئاسة الأولى بعد نجاحه في استمالة جمهور مسيحي كبير وقويّ منذ ترؤسه الحكومة العسكرية البتراء عام 1988، وفي استخدامه لتحقيق هذا الطموح بطريقتين مهمتين. الأولى التقرّب غير العلني من الحاكم الفعلي للبنان أي سوريا الأسد وإغراؤه بتنفيذ سياسته اللبنانية والإقليمية، وبأن يكون “جندياً” في جيشه على ما أكدت في حينه “مراسيل” بينه وبينها وأيضاً بضرب أعدائه المسيحيين في البلاد وهم حزب الكتائب و”القوات اللبنانية” الخارجة من رحمه. الثانية إحكام سيطرته العسكرية على البلاد والانفتاح على أعداء سوريا من العرب وفي مقدمهم عراق الرئيس الراحل صدام حسين ومنظمة تحرير فلسطين ورئيسها الراحل ياسر عرفات وتنفيذ جوانب من سياستيهما في لبنان، وحصوله في المقابل على شحنات من الأسلحة وربما كميات من المال، ثم انتظار ظروف إقليمية ودولية مناسبة لتحقيق حلمه الرئاسي. المضحك المبكي في حينه أن سفينةً أو ربما سفناً محمّلة بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة والذخائر كانت موجهة الى “الجنرال” عون والى “القوات”. والمضحك المبكي أيضاً أن الفلسطيني “النافذ” في لبنان تولّى توزيع الشحنات على الطرفين المسيحيين اللذين قاتلاه وقد أطلع “الموقف هذا النهار” في حينه على هذه المعلومات “فدائي” فلسطيني كان من الأقربين الى الراحل ياسر عرفات، وكان ينصح عون وربما جعجع بالتوصّل الى تفاهم لوقف الحرب. ولكن الى من توجّه نصائحك يا “داود”. وللأسف دفع هذا “الفدائي” حياته لاحقاً بعد عودة الاستقرار في لبنان الذي اختار البقاء فيه وعلى أرضه ثمناً للخلافات الداخلية بين الفلسطينيين.
طبعاً بقيّة القصة معروفة، نُفي عون الى فرنسا وبدأ نشاطاً من هناك في اتجاه الولايات المتحدة من أجل “الانتقام” من سوريا وإخراج جيشها من لبنان، ونجح بعد سنوات نتيجة عمله في أوساط الكونغرس كما مع اليهود الأميركيين النافذين فيه، نجح في استصدار قرارات دولية من مجلس الأمن تطلب من سوريا خروجها العسكري والأمني من لبنان. لكن المضحك المبكي كان أنه توصّل الى اتفاق مع الرئيس إميل لحود بعد ذلك، الذي أوصلته سوريا الأسد الى رئاسة الدولة اللبنانية يقضي بوقف الملاحقة القضائية له وباستعادته رتبه العسكرية ومستحقاته المالية. ما كان ذلك ممكناً لولا موافقة دمشق. والمضحك المبكي أيضاً أكثر كان اتفاقه في باريس مع شخصية عسكرية سورية رفيعة قُتلت في أثناء الثورة والحرب الأهلية ثم الإرهابية داخل سوريا على العودة الى البلاد ومباشرة العمل السياسي من موقع الحليف لها لا العدوّ ولكن بهدوء وعلى نحو تدريجي وقيل في حينه بلسان “شاهد عيان” إن الاتفاق لم يكن شفهياً فقط.
عاد “الجنرال” الى بلاده ومكّنه خوف أخصامه بل أعدائه فيه وفي مقدمهم الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط من أن يستأثر بالتمثيل النيابي المسيحي في الانتخابات العامة التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومن أن يؤثّر في نتائجها درزياً وإسلامياً أيضاً. وقد عبّر جنبلاط عن الخوف المذكور بوصفه عون بـ”التسونامي” الآتي من الخارج كي “يقشّ” الجميع. كان خوف جنبلاط في محله بعد انتهاء الانتخابات وإعلان نتائجها، ومعروف أن عودة عون الى البلاد كانت تقضي بحسب الاتفاق بانتقاله تدريجاً الى صفوف حلفاء دمشق من اللبنانيين. وبقية الرواية معروفة، إذ أوصل “حزب الله” عون والقوى الأخرى الحليفة له والمعادية له أيضاً الى الرئاسة الأولى بموافقة سورية أسدية وطبعاً إيرانية وأيضاً سعودية وغربية وفاتيكانية وأميركية. وكانت تجربته الرئاسية الدليل الأحدث والأسطع على الضرر الذي يُلحقه الرؤساء “الأقوياء” بشعبهم كما بالشعوب الأخرى في بلادهم.
هذا الأمر على أهميته الفائقة لا يقلّل من أهمية الدور الذي نفّذه “حزب الله” أو وضعه ثم نفّذه وأوصل عون الى الرئاسة. وإلقاء الضوء على هذا الأمر ليس لأن لـ”الموقف هذا النهار” أو بالأحرى لكاتبه موقفاً عدائياً وطنياً أو طائفياً أو مذهبياً وموقفاً سلبياً من “حزب الله” أو موقفاً سلبياً من راعيته بل مؤسّسته إيران الإسلامية، كما من سوريا الأسد التي مكّنته مع شريكته في “الثنائية الشيعية” حركة “أمل” من البروز لاعباً أول سياسياً وشعبياً وعسكرياً في لبنان وصاحب دور عسكري مهم في الإقليم انطلاقاً من سوريا بدفاعه الناجح و”جيشه” الذي صار قوة إقليمية عن رئيسها بشار الأسد ونظامه، علماً بأن موقفهما منه نقدي ولمصلحة لبنان وتفاهم طوائفه وشعوبه وإلقاء الضوء على الأخطاء التي يرتكبها قادتها السياسيون والدينيون. أين أخطأ “حزب الله” في المرحلة المذكورة؟ وهل كان تحالفه مع عون و”تياره الوطني الحر” خطأ؟ وهل هو مقصود؟ وذلك إن كان صحيحاً ينفي صفة الخطأ عنه، أم عفوي وذلك لا يأتلف مع طبيعة “حزب الله” التخطيطية التي اكتسبها من راعيته بل مؤسّسته إيران؟ وهل كشف بصراحة فجّة لشعب لبنان أو لشعوبه الشخصية الفعلية لـ”الجنرال” عون والعوامل التي تحرّكها قلباً وعقلاً الأهداف الفعلية له في حينه ولـ”حزب الله”؟
يبدأ “الموقف هذا النهار” بالسؤال الأخير فيشير الى أن تحالف عون و”حزب الله” كشف عملياً أمراً تأكد منه اللبنانيون مرّات عدة ودفعوا ثمنه، وهو أن لا همّ لعون سوى السلطة أياً يكن مصدرها وطنياً لبنانياً أو مسيحياً أو عربياً مسلماً أو مسلماً غير عربي، أو فرنسياً أو يهودياً أميركياً أو أميركياً. كيف ذلك؟