كتبت النهار
فيما انصرف كل من فريقي الصراع الرئاسي بعد جلسة الانتخاب الثانية عشرة أول من أمس، الى تظهير نقاط قوته وتقدمه على نحو معلن وانصرف في الغرف الموصدة الى إجراء جردة حساب لخسائره وزوايا ضعفه، كان ثمة من ينأى بنفسه عن هذا السجال المفتوح ليطرح سؤالاً ملحاً مضمونه: هل آن أوان ركون الجميع الى تسوية؟ أم هو لا يزال يرى أن موازين القوى التي تبدّت في المحطة الاخيرة تبيح له المضيّ نحو مزيد من المنازلات والمواجهات رهاناً من كل منهما على تحولات ومتغيرات تطرأ وتدعم وجهته وخياراته وأنه استطراداً ما زال هناك مكان لتجربة جديدة وفرصة للمراهنة؟
كل من سمع المواقف التي وردت أمس على لسان نواب الفريقين في أعقاب الجلسة الأخيرة يستشف أن كليهما يعدّ العدة لمزيد من جولات الاختبار القاسية على غرار اختبار الاربعاء الماضي. وليست تلك المواقف النارية وحدها ما يثبت أن كل طرف يعتبر مرشحه فائزاً معنوياً ومؤهلاً للفوز النهائي في أي جلسة انتخاب مقبلة هي وحدها الدليل والبرهان على هذه الرغبة المضمرة في الذهاب الى حلبة الصراع وسد الأبواب أمام الاحتمالات المعاكسة والمفضية الى تسويات.
فالواضح أن الائتلاف السياسي بنسخته الأصلية الخالية من “التيار الوطني الحر”، أي المحتشد منذ البداية على هدف واحد هو الحيلولة دون وصول مرشح الفريق الآخر الى سدة الرئاسة الأولى مهما اقتضى الأمر من جهود ينطلق من تقييم أساسي يقوم على قاعدة أنه يتعيّن عليه أن يقطف ثمار سنوات أربع من الجهود الاستثنائية التي انطلقت منذ حراك 17 تشرين الثاني، بقصد سحب الأكثرية النيابية التي ظهرت بجلاء في انتخابات عام 2018 من قبضة الثنائي الشيعي والائتلاف السياسي حوله.
وثمة بطبيعة الحال من لا يزال يذكر حجم حال الانتشاء السياسي التي عصفت بهذا الفريق ساعة إعلان نتائج الفرز في الانتخابات الأخيرة (قبل عام وبعض العام) التي أثبتت تراجع الحصة النيابية لفريق 8 آذار بنسخته الأصلية، التي قُدّرت بنحو 25 نائباً خصوصاً أنها انحسرت من 71 الى 45 نائباً وفق ما أظهرته جلسات المجلس بعد عام على انتخابه.
ورغم ذلك لم يكن يسيراً على جهة محلية أن تطوّع التكتل السياسي الوالج لتوّه الى مجلس النواب على حصان التغيير.
ومما لا بد من ذكره أن التشتت الذي أصاب الكتلة النيابية السنية بعد احتجاب الحريرية السياسية قد شجّع الطامحين على المضيّ في رهاناتهم. ولكن من خارج كل الحسابات تستجدّ رياح مؤاتية لمصلحة هؤلاء كان أبرزها هاجس “الثأر” الذي طغى على تفكير رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل من مرحلة أرادها معبراً له الى زعامة وحضور يحاكي زعامة قامات مارونية من وزن كميل شمعون ومن قماشة بشير الجميّل، فيضاف هذا الى عناصر أخرى تصبّ كلها في ميزان الطامحين الى “إنزال هزيمة بالثنائي” تكون توطئة لتحجيم دوره وكبح جماح تمدّده الثقيل الوطأة. وفجأة أيضاً يطرأ عامل ليس بالحسبان إذ تعود سوريا الى الحضن العربي فيوقظ هذا الحدث المخاوف والهواجس الكامنة في نفس وليد جنبلاط ويدفعه الى التحلل من تعهد سبق أن أعطاه للثنائي منذ أشهر يقوم على قاعدة: “قد لا أكون مع خياراتكم ولكن لن أنجرّ الى صدام معكم على خلفية السباق الرئاسي”. وبعدها سار جنبلاط الأب الى النهاية بخيار نجله مع الائتلاف المؤيّد لازعور.
وهكذا وفي لحظة واحدة “تقاطعت” مصالح 6 قوى سياسية أساسية لتنتج تفاهماً سياسياً يرى خصومه أنه ائتلاف مرعيّ بعين خارجية وهدفه وضع مزيد من حوائط السد التي تحول دون وصول مرشح الثنائي الى قصر بعبدا.
لا ريب في أن الجلسة الأخيرة للمجلس أظهرت لمكوّنات هذا التفاهم أن الأمور ليست على هذا القدر من اليسر، لكن ذلك الاستنتاج على بلاغته لم يخفض من منسوب عزيمته لخوض تجربة مماثلة انطلاقاً من أن الرماديين الـ18 الذين رفضوا التصويت لأي من المرشحين هم مخزون يمكن التزوّد منه لاحقاً لتثقيل ميزانه في يوم آت.
وفي الموازاة يتصرّف الثنائي من منطلق أن نتائج تلك الجلسة لم تبدّد وحسب هجمة الخصوم لكنها أظهرت صدقية معادلات كان حريصاً على التذكير بها وفحواها أن لا رئيس غصباً سيصل الى سدة الرئاسة. ومنذ اليوم الأول لانفتاح معركة السباق الى قصر بعبدا كان الثنائي على يقين من أن حصّته من النواب لن تؤمن له فوزاً مضموناً لأي مرشح يسير به لكنه يعتمد ضمناً على عوامل صارت معروفة ومنها:
– إمكان التفاهم ولو بعد لأي مع التيار الوطني الحر على مشترك معيّن يجعله يجنح الى القبول بتسوية وشراكة ما.
– أن رياح التطورات الإقليمية بعد اتفاق بكين لم تعد بالضرورة معادية له بل ربما نفخت في شراع مركبه.
– أن جبهة المناوئين وإن فرضت عليه الحسابات وتصفيتها بالتقاطع على مصلحة معيّنة يوماً فهي ليست في نهاية المطاف ولن تكون على قلب رجل واحد.
وبناءً على ذلك انتظر “حزب الله” طويلاً بلا جدوى إذ ظل الخصوم على المستوى عينه من المواجهة فيما بقي الحليف السابق على درجة المكابرة عينها، وهو ما أضعف الى درجات دنيا آماله بتكرار تجربة انتخابات عام 2016 التي أباحت له تأمين وصول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا.
ولكن رغم كل هذه العناصر السلبية ما انفك الثنائي الشيعي وواجهته “حزب الله” ثابتاً عند رؤيته الأصل وجوهرها أن أي تراجع وأي تخلّ عن مرشحنا الحصري (فرنجية) هو بمثابة “التوقيع على وثيقة إعدام” سياسية لاعتبارين اثنين:
الأول أن الآخرين لم يقدّموا للحزب والثنائي يوماً أي عرض تفاوض مقنع وربما سواء رغبوا أو لم يرغبوا، إذ إن الأسماء المعروضة علينا منذ ترشيح ميشال معوض الى جهاد أزعور وما بينهما هي إما تعادينا وتجاهر بذلك أو من النوع الذي يملك قابلية التحوّل الى ميشال سليمان آخر.
ولذا تتبنّى مصادر في الحزب الخلاصة الآتية: ما دام هؤلاء الخصوم ماضين في نهج إشهار الرغبة بالمنازلة والمضيّ بها فنحن لها وبالمرصاد.
الثاني “على رغم كل ما يبديه البعض من مكابرة وحال إنكار للوقائع الموضوعية ما زلنا نترقب أن يجنح كل هؤلاء أو بعضهم نحو عقلانية وموضوعية”.