محمد وهبة – الأخبار
عندما صدر المرسوم رقم 9458 والذي يتضمن في مادته الـ16 تشريع الإنترنت غير الشرعي، كان يفترض أن يتم الأمر باسم “أوجيرو”، أي أن يتم تحويل الشركات غير الشرعية إلى مشغّلين لديها ويدفعون لها الرسوم عن المشتركين، لكن وزارة الاتصالات تواطأت على المال العام وقرّرت أن توزّع أكثر من 560 ألف مشترك والإيرادات المرتبطة بهم على شركات القطاع الخاص
في كانون الأول من عام 2021 كان عدد سعات الإنترنت الدولية المستخدمة من شركات القطاع الخاص العاملة في مجال تقديم خدمات الإنترنت 253,538 ميغابايت، وكانت تصرّح عن عدد مشتركين يبلغ 142,061 مشتركاً، أما في كانون الأول 2022 فقد بات عدد السعات المستخدمة 331,070 ميغابايت وهي تصرّح عن 705,107 مشتركين، أي إن السعات المستخدمة زادت بنسبة 30% وعدد المشتركين زاد بنسبة 396%. لم تحصل هذه الزيادة بالصدفة خلال أربعة أشهر، بل عبر خطّة مدروسة نفّذتها وزارة الاتصالات بقيادة الوزير جوني القرم وثلاثة مستشارين في مكتبه، والهدف منع أوجيرو من ضمّ المشتركين في القطاع غير الشرعي من خلال تنفيذ مزاجي للمادة 16 من المرسوم 9458 الصادر في حزيران 2022.
لم يُخلق القطاع غير الشرعي في توزيع الإنترنت حديثاً. اتّخذت عملية استجرار الإنترنت بشكل غير شرعي أكثر من شكل، لكنها بلغت مداها أيام الرئيس السابق لأوجيرو والمدير العام للاستثمار في الوزارة عبد المنعم يوسف، إذ تبيّن أنه وزّع تراخيص توزيع إنترنت بالجملة لعدد من شركات القطاع الخاص حتى فاق عدد الشركات نحو 120 شركة. انتهى الأمر بفضيحة سرقة الإنترنت التي بدأت مع توقيف توفيق حيسو، وتبين أن المشاركين فيها كثر، من بينهم مالكو قناة “المر.تي.في” التي لم تتورع أمس عن عرض تقرير في نشرتها الإخبارية، تنسب فيه تهريب الإنترنت إلى السوريين أيضاً!.
بعد الفضيحة، بقي السؤال هو ذاته: كيف يحصل المشتركون في الأحياء على الإنترنت؟ الإجابة كانت بسيطة للغاية خلافاً للتعقيدات التقنية التي تفسّرها. فمن المعروف أن هناك قنوات يُطلق عليها «ديوك الحي»، تحصل على سعات دولية مصدرها الأساسي «أوجيرو» إنما لا يظهر لدى هذه الأخيرة عدد المشتركين المستفيدين من خطوطها. ووفق عملية تتبع تقنية معقّدة، تبيّن لدى «أوجيرو» أن شركات توزيع الإنترنت المرخّصة كانت على مدى السنوات تزيد عدد السعات التي تحصل عليها بنسبة أقلّ بكثير من نسبة زيادة عدد المشتركين، وتبيّن أن شركات نقل الداتا السبعة المرخّصة تشارك في هذه اللعبة عبر تغطية شركات توزيع الإنترنت، أو عبر تراخيص توزيع تملكها. ففي نهاية عام 2021 قدّرت «أوجيرو» أن السعات المؤجّرة لشركات التوزيع تكفي لربط 760,614 مشتركاً بينما لم تصرّح شركات توزيع الإنترنت إلا عن 142,061 مشتركاً، أي أن هناك 618,553 مشتركاً غير مصرّح عنه والإيرادات التي تجبى منهم تذهب إلى جيوب «ديوك الأحياء» وشركات توزيع الإنترنت، وشركات نقل الداتا.
تواطؤ الجميع على سرقة المال العام الذي يفترض أن ينتج عن تأجير السعات الدولية، وتقديم خدمات الإنترنت على الأراضي اللبنانية، سببه الأرباح الهائلة التي تنتجها عملية إخفاء المشتركين، والتي كانت تقدّر في عام 2019 بنحو 32 مليون دولار على أساس أن هناك 450 ألف مشترك يحصلون على الإنترنت من خلال قنوات غير شرعية. لكن في نهاية 2022 زاد عدد هؤلاء بنسبة 37.5%، كما جرى تعديل المرسوم الذي يحدّد التعرفات والرسوم المترتبة على الشركات والمشتركين، ما زاد قيمة الإيرادات المسروقة. وقدّرها وزير الاتصالات بنحو 163 مليون دولار.
الصراع على هذه الحصّة السوقية بين شركات القطاع الخاص لم يكن بالشراسة التي نشهدها اليوم. لأن «ديوك الأحياء» شكّلوا محميات داخل مناطقهم وكانوا يدفعون الخوّات للأحزاب السياسية وقبضايات الحي ولنافذين مقرّبين من الزعماء، من أجل الاستمرار في تقديم الخدمة من دون أن يتعرّضوا لأي ضغوطات من القوى المدنية في وزارة الاتصالات ومؤسسة “أوجيرو”، أو من القوى العسكرية المرافقة لهم في عملهم. لكن الصراع اندلع حين انكشفت عملية السرقة القائمة على حصول الشركات على سعات دولية من «أوجيرو» واستعمالها بشكل غير شرعي. عملياً، كان اختلاساً للمال العام أجبر الجميع على نفض يده من بعض الشركات.
موزعو الخدمات في الأحياء يحظون بتغطية سياسية مقابل عمولات
لم يطل الأمر حتى جرت ضبضبة الملف، وأطلق حيسو وآخرون رغم ثبوت تورطهم، وبقيت «أوجيرو» تحارب طواحين الهواء، حتى لاحت فرصة نهاية عام 2022 حين عقدت الحكومة آخر جلساتها قبل انتقالها إلى تصريف الأعمال. يومها كان قطاع الخلوي على شفير الانهيار بسبب الفروقات بين الإيرادات بالليرة من جهة، وكلفة الإنتاج القائمة بالدولار. والتي كانت تعادل 70% من الكلفة الإجمالية. وبنتيجة الأمر قرّر مجلس الوزراء رفع التعرفات بمعزل عما إذا كان المستهلك قادراً على تحمّلها. اقترح المدير العام لـ«أوجيرو» عماد كريدية أن يكون موضوع الإنترنت غير الشرعي بنداً ضمن المرسوم، ما يسمج بجباية إيرادات إضافية كانت مسروقة طوال سنوات. وهكذا أُدرجت المادة 16 ضمن المرسوم 9458 التي تنصّ على الآتي: «تضبط شبكات التوزيع والربط المخالفة و/أو المنشأة من دون تراخيص، والمستعملة لنقل وتوزيع خدمات الإنترنت ونقل المعلومات، وتوضع بتصرف وزارة الاتصالات لإدارتها لحين اتخاذ القرار المناسب من قبل القضاء المختصّ»، كما ورد أيضاً أنه في مقابل ضبط الشبكات واستيفاء الرسوم بكاملها لحساب الوزارة، تسدّد الوزارة رسوم صيانة بمعدل 25% للمشغلين. وإذا كان هؤلاء لديهم تراخيص من وزارة الاتصالات، فيمكنهم التقدّم بطلب ترخيص هذه الشبكات المضبوطة.
ما حصل هو أن الترتيبات بين الوزارة و”أوجيرو” التي أفضت إلى صدور المرسوم الوزارة من أجل تحصيل الإيرادات الفائتة على الخزينة، انتهت بأن لجأ مستشارو الوزير الثلاثة (ج.د) و( إ.ح) و(ف.ض) إلى استخدام المرسوم من أجل تمكين الشركات الكبرى التي تعمل في نقل الخدمات من استيعاب الشركات غير الشرعية ومشتركيهم.
وتقول المعلومات أنه جرى الاتصال بالشركات وتوجهيهم للتصريح مع الشركات المرخصة، وهذا ما أدّى إلى زيادة عدد المشتركين المصرّح عنهم لوزارة الاتصالات من 142 ألف مشترك إلى 705 آلاف مشترك خلال أربعة أشهر فقط. وتقدر الإيرادات الممنوعة عن الدولة، وفق مرسوم التعرفات الأخير بنحو 3 ملايين دولار سنوياً، أما في مشروع المرسوم المقترح اليوم فهي تبلغ 21 مليون دولار بمعدل 3.5 ملايين ليرة عن كل مشترك سنوياً. عملياً، يظهر الفرق بين قيمة رسوم المشتركين وبين قيمة الإيرادات الناتجة من بيعهم خدمة الإنترنت بأكثر من 45 مليون دولار، وهي تذهب لتُوزع مناصفة بين “ديوك الحي” وشركات القطاع الخاص، أو بنسبة 60% للشركات و40% للموزّع. علماً أنه كان يفترض أن تصبّ النسبة الأكبر منها في خزينة «أوجيرو». بمعنى آخر، أُهديت هذه الحصّة السوقية للشركات بتواطؤ بين نافذ في وزارة الاتصالات وبين الشركات، وعلى حساب المال العام.
تشريع قنوات السرقة
لاحظ العاملون في قسم الصيانة في «أوجيرو» مفارقة غريبة، إذ بينما كانوا يعملون على ضبط الشبكات، ولا سيّما أحد الكابلات الواصلة بين بيروت وصيدا، تبيّن أن التوقف المؤقت لم ينعكس توقفاً للخدمة التي كانت تقدّمها الشركات الخاصة بشكل غير شرعي، بل استمرّت بعد قطع الكابل بسبب وجود تقنية ربط أخرى بين الشركات والسنترالات. بمعنى أن شركات نقل الداتا تربط السنترالات بعضها مع بعض خلافاً للقانون، وبإمكانها بهذه الطريقة أن تعوّض النقص في خدمة الإنترنت الذي ينتج من قطع الكابلات الممدودة هوائياً، عبر قنوات أخرى لا يمكن لـ«أوجيرو» ووزارة الاتصالات رصدها وكشفها بسهولة. ويقول المطّلعون، إن هذا الأمر كان واضحاً أثناء الإضرابات التي نفّذها موظفو أوجيرو، إذ تبيّن أن الخدمات التي يحصل عليها المشتركون لم تنقطع رغم أن السنترالات التي كانت تزوّد الشركات بخدمة الإنترنت كانت متوقفة أو شبه متوقفة عن العمل. عملياً، الشبكة غير الشرعية أصبحت شبكة رديفة، جرى تشريعها اليوم بتواطؤ الوزارة مع الشركات.
رأي ديوان المحاسبة حول المقاصّة
رفض ديوان المحاسبة في رأي استشاري صادر عنه في آذار الماضي، اقتراح وزير الاتصالات جوني القرم بإجراء مقاصّة مباشرة مع الشركات دون المرور بوزارة المالية. وتالياً، رفض الديوان أن تقبض «أوجيرو» الأموال مباشرة من الشركات عن كل مشترك في الشبكة غير الشرعية (المضبوطة)، ومن ثم تدفع للشركات مقابل صيانة الشبكة، دون مرور الأموال بحسابات الدولة في وزارة المالية، وخضوعها للرقابة. ما أيّده الديوان، هو مبدأ إجراء عقد نموذجي، يضبط الشبكة غير الشرعية، ويُدخل إيراداتها إلى خزينة الدولة، لكن بشرط التنفيذ وفق الأصول القانونية، للتمكّن من مراقبة ما يدخل ويخرج من أموال. ولا يزال يراهن القرم على أن يعدّل الديوان في رأيه ويمنحه موافقته الملزمة للتمكّن من توقيع العقود.
من جانبها اعتبرت هيئة الاستشارات والتشريع، في استشارةٍ طلبها منها الوزير، أنّ «الشبكة غير الشرعية، هي ملكية خاصة، لمن أنشأها، وتبقى كذلك إلى حين صدور قرار قضائي قابل للتنفيذ، أو قانون يبتّ في نزع تلك الملكية».
563 ألف مشترك
في خدمة الإنترنت غير الشرعي صرّحت الشركات الخاصة عنهم خلال أربعة أشهر
130 ألف مشترك
هو عدد المشتركين الذين يقدّر أنهم يحصلون على خدمة الإنترنت غير الشرعي لكن الشركات لم تصرّح عنهم بعد
2.5 زبون
هو المعدل الذي اعتمدته أوجيرو لاستعمال كل 1 ميغابايت من السعات الدولية، لكن بعض الشركات صرّحت بأنها تحمّل عليه 1980% من طاقته القصوى
هو عدد الشركات التي تحمّل كل 1 جيغابات من السعات الدولية التي تشغّلها فوق طاقته القصوى من الزبائن
280 ألف زبون
هو عدد المشتركين لدى أوجيرو بشكل مباشر وعددهم بدأ يتناقص بسبب تواطؤ الوزارة مع شركات القطاع الخاص