كتبت النهار
يصعب بعجالة سريعة إدراج تعداد تاريخي بالأسماء والظروف للوسطاء الأجانب الذين تعاقبوا تبعاً لحقبات الحروب والأزمات في لبنان وعلى لبنان، لأن مهمة كهذه تحتاج الى مجلدات وأبحاث أعمق من مجرد إحياء سريع للذاكرة في محطة محددة. ومع ذلك ترانا نسترجع اليوم هذا “التقليد” الذي تأبى الأقدار الغاشمة للبنان إلا أن تعيده إليه تارة بأفضال جهات ودول تتلاعب بمصيره وطوراً وغالباً بأفضال بعض “أهل الدار” الذين يستمرون في لعبة تقليد الأوصياء والمحتلين الخارجيين في “أسر الرهينة” من دون هوادة.
بخلاصة عاجلة، جان إيف لودريان الوافد إلينا اليوم بحلة فرنسية غامضة لم تتضح وليس من السهل أن تتضح بسرعة ألوانها الواضحة، ليس ريتشارد مورفي الوسيط الأميركي الأشهر في ذاكرة التجارب الصدامية بين “المسيحيين” وإدارته آنذاك لأنه حمل ذلك الاتفاق الشهير على تزكية الراحل مخايل الضاهر الذي عقده مع حافظ الأسد فرفضه المسيحيون من دون أن يأبهوا لتهديده بـ”الفوضى” وإن حصلت فعلاً لاحقاً. وليس لودريان أيضاً جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي العريق في جولات التفاوض مع حافظ الأسد وسواه بعد انهيار الحرب الباردة والذي وصف “تقنيات” الأسد الأب في “تعذيب” مفاوضيه على نحو مدهش في الدقة. وليس لودريان أيضاً فيليب حبيب الوسيط الأميركي المنحدر من جذور لبنانية والذي انتزع أزمة الصواريخ “السوفياتية” من مرتفعات صنين في مطالع الثمانينيات ليتوغل لاحقاً في أشد الوساطات تعقيداً في تاريخ الحرب اللبنانية مع الاحتلالين الإسرائيلي والسوري سواء بسواء.
الحلقة تطول إذا مضينا في الاستعادات بلوغاً الى ابريل غلاسبي وما قبلها وبعدها في الطائف وما بعده وحتى الى أحدث الوسطاء الاميركيين اللامعين والناجحين جداً آموس هوكشتاين الذي انتزع اتفاق أو تفاهم ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل من فم الاشتباكات الإقليمية والأزمات اللبنانية على نحو مذهل. وزير الخارجية والدفاع الفرنسي السابق جان إيف لودريان لن يكون على مقاس “أسلافه” هؤلاء ولو امتلك بعضاً أو كثيراً من مواصفاتهم لسبب بديهي، هو أن مهتمه قد لا ترقى الى وساطة بالمعنى الحرفي ما لم تتضح أمام سائر مفاوضيه ومحادثيه ومن يحلو لبلاده وصفهم بـ”اللاعبين” اللبنانيين ما إن كانت فرنسا صوّبت بوصلتها أولاً في سياق دور لم يعد في نظر من رفضوا ترشيح سليمان فرنجية ذاك الدور التاريخي العريق الذي يؤهّله للوساطة الموضوعية.
لا يتصل الأمر هذه المرة بمعاينة شخص الوسيط فيما يتعين على “المستفيدين الجدد” من انحياز الحكم الفرنسي الى مرشح بعينه أن يدركوا ويعترفوا ويغادروا سياسات الإنكار حيال أثر التداعيات السلبية العميقة للخلل الأقوى الذي ضرب علاقات فرنسا مع المسيحيين في لبنان. إذا شاء المكابرون المضي في المكابرة فعليهم التوقف عند دوافع إرسال الرئيس إيمانويل ماكرون أحد أعرق وزرائه السابقين الى لبنان لإعادة رسم خط مختلف ووضع بوصلة مختلفة عمّا سبق، ليس للأزمة الرئاسية المستعصية على الحلّ فقط بل لإعادة تصويب المقاربة الفرنسية نفسها أولاً. لودريان هو الأقدر في المعرفة المسبقة لأجوبة من سيلتقيهم، وسيكونون كثراً، إذ إنه الوسيط الفرنسي الآتي لإعادة ترميم “الماكياج” الباريسي الأصلي الذي غالباً ما يرتاح إليه اللبنانيون وليس “المحدث”. لودريان أطلق غداة انفجار المرفأ زخات تحذيراته الشهيرة من “اختفاء لبنان” وسحب يده من طبقة سياسية يعود اليوم ليلتقي رموزها بعدما أوشكت تحذيراته على التحقق. لا تتسرّعوا لا احتفاءً ولا كمداً…!