*صندوق النقد يخيّرنا: خازوقي أو خازوق حكّامكم!*
*محمد وهبة – الأخبار*
خلال عطلة العيد، قرّرت إدارة صندوق النقد الدولي إصدار تقرير البعثة الرابعة الذي كان مقرّراً نشره في 21 حزيران الماضي. التقرير تضمّن توصيفاً مفصّلاً من الصندوق للوضع الجاري في لبنان، وحدّد المسارات المتاحة باثنين: أن يطبّق لبنان الإصلاحات المتّفق عليها مع الصندوق ويترجمها بسياسات تحقّق نمواً بمعدل 4% في عام 2025، أو الاستمرار بالسياسات الحالية التي تؤدّي إلى نتائج لا يمكن عكس مفاعيلها مستقبلاً. بهذا المعنى، التقرير يوثّق ما يحصل، لكنه يجعل الصندوق محور مستقبل لبنان. فإما على اللبنانيين الخضوع لإملاءات الصندوق وشروطه في تطبيق الإصلاح، أو الموافقة على مواصلة التكيّف الذي تنفذه السلطة بقيادة مصرف لبنان. الخضوع للصندوق يعني زاوية واضحة لتطبيق السياسات لتسهيل استعادة الثقة بالقطاع المصرفي لتأمين الملاءة والربحية له، وتصحيح الضرائب والرسوم بشكل كافٍ، تمهيداً للعودة إلى النموّ. أما التكيّف الجاري، فهو ينطوي على مخاطر من أبرزها مزيد من الانحدار في سعر الصرف، ودولرة نقدية شاملة بفعل الأمر الواقع، وزيادة في الهجرة، وخسائر أكبر في القطاع المالي، وهشاشة أكبر تجاه وضعية لبنان المالية مع الخارج، ودين غير مستدام…
«لبنان على مفترق طرق» هذه العبارة التي وردت في تقرير البعثة الرابعة، تختصر ما يراه الصندوق في لبنان، وما يريده منه. ما يحصل في لبنان بات واضحاً. لم يسمّها الصندوق مرحلة تكيّف قسريّة مع واقع مرّ، إنما أشار إليها بالأرقام. فالناتج المحلي الإجمالي تقلّص بنسبة 40%. كان الناتج 54.9 مليار دولار قبل الأزمة، ثم انخفض إلى 21.8 مليار دولار في السنة الماضية ويقدّر أن يبلغ 16.2 مليار دولار في نهاية عام 2023. معدلات التضخّم ما زالت ثلاثية الأرقام ويتوقع أن تسجّل 296% في نهاية السنة الجارية. مصرف لبنان خسر ثلثي سيولته بالعملة الأجنبية من 36 مليار دولار إلى 10.6 مليارات دولار. البطالة مرتفعة وتبلغ 30% بينما بطالة الشباب تبلغ 58%. نصف المجتمع مهمّش. نقص كبير في الخدمات العامة مثل الكهرباء والماء. تسارع في الدولرة النقدية التي تشمل الفنادق والسوبرماركت وجزءاً كبيراً من عقود القطاع الخاص والرواتب. العجز المالي يبلغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وإذا أضفنا إليه عمليات مصرف لبنان مثل الدعم فسيبلغ 8.5% من الناتج. الإيرادات العامة انكمشت إلى 6% من الناتج، والدولة أجرت خفوضات كبيرة وبشكل غير منظّم على نفقات التعليم والصحة. وسط انهيار الأجور في القطاع العام، تدمّرت الخدمات العامة وسجّل الكثير من الاستقالات فضلاً عن الغياب المرتفع والمستمرّ. المصارف توقفت عن التسليف. حتى نهاية 2022 لدى المصارف رساميل بقيمة 12 مليار دولار، لكن الاعتراف بخسائر توظيفاتها لدى مصرف لبنان يعني أن غالبيتها سيكون لديه نقص هائل في الرساميل… كل ذلك يأتي وسط وضع سياسي معقد في المنطقة. فالسلطة لم تنشر تقديراتها للنموّ، رغم أن مصرف لبنان «بشكل ما متفائل ويرى أن لبنان حقّق نمواً بنسبة 2%»!
يخلص التقرير إلى أن مفترق الطرق بالنسبة إلى لبنان هو الآتي: استمرار الوضع القائم، أو البدء بالإصلاحات؛
26 مليار دولار
هي قيمة الفوائد الإضافية التي حصل عليها المودعون بين عامَي 2008 و2021 بناءً على حسابات صندوق النقد الدولي للفروقات بين مستويات أسعار الفائدة في لبنان وفي الخارج، علماً أن قيمة الفوائد الإجمالية المدفوعة لأصحاب الودائع بلغت 38 مليار دولار. أما إذا احتسبنا قيمة الفوائد المدفوعة للفترة ما بين عامَي 2015 و2021، فإنها تبلغ 25 مليار دولار منها 15 مليار دولار فوائد إضافية
ad
الإصلاحات بشكل مختصر، ستكون في الإطار الآتي: «السياحة محرّك أساسي للنشاط الاقتصادي، وإلى جانبها قطاعات فرعية مثل الزراعة والصناعة وما يتصل بالمياه وصناعة الدواء والاتصالات وسواها». ضمن ذلك، ستصاغ سياسات تستهدف تحقيق نموّ بمعدل 4% في عام 2025، ثم تثبيته على 3% ضمن المدى المتوسط. وهذا يتطلب، كما يقول الصندوق، تمويلاً أجنبياً من ضمنه فكّ العقد التي تعتري اتفاق استجرار الغاز مع مصر… العودة إلى النموّ فسيكون من خلال إعادة الملاءة والربحية والامتثال للقطاع المصرفي، وتصحيح الضرائب والرسوم بشكل أكثر ملاءمة لخفض العجز المالي. بالطبع، فإن سياقاً كهذا، يتطلب إعادة هيكلة للقطاع المالي بكامله. ورغم أن الدولة ليست قادرة على إعادة رسملة مصرف لبنان، إلا أن الصندوق يجد أنه من الضروري إعادة دوره بعد شطب خسائره التي تراكمت من العمليات المالية (الهندسات)، والعمليات التي نفّذها بعد الأزمة، أي «شطب التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف».
في الواقع، يلفت الصندوق إلى أنه مع السلطات متفقان على أن الخسائر في القطاع بلغت 70 مليار دولار، أو ما يوازي 300% من الناتج. وهو، خلافاً لما تراه السلطة، يعتقد أنه يجب القيام بالآتي: شطب الرساميل والديون وودائع أصحاب العلاقة (المساهمين)، القيام بإعادة رسملة محلية تتضمن عمليات شطب للودائع وتحويلها إلى أسهم تملك أصولاً في الدولة وليلَرَة بعضها، تأمين حماية لصغار المودعين، ضخّ رساميل جديدة في المصارف من المساهمين الحاليين أو عبر مساهمين جدد، وخروج المصارف غير القابلة للحياة.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ إن النقاشات بين فريق الصندوق وقوى السلطة، أظهرت ممانعة من السلطة تجاه كل هذا السياق ومن ضمنه عملية تراتبية توزيع الخسائر بما فيها شطب الودائع، وإعادة رسملة المصارف وسواها. فالسلطة لديها رهان مختلف كلياً، ربما لأنها تشعر بفاعلية أدائها في فرض التأقلم والتكيّف. وهي لا تخفي الأمر عن الصندوق، إذ أشار الصندوق في تقريره إلى أن «السلطات تقول إن نسبة كبيرة من القطاع الخاص تأقلم مع الظروف وبدأ يظهر مؤشرات على التعافي»، ويضيف أن «السلطات تدرك بأن تأخير الاعتراف بالخسائر سيزيد كلفة استراتيجية إعادة الهيكلة، وهم يوافقون على تراتبية الخسائر وارتباطها مع استدامة الدين، إلا أنهم يرون أنه نظراً إلى طبيعة النظام المالي وحجم الخسائر الهائل التي سيتكبدها المودعون بسبب الشطب، لم يسبق أن حصل في أي بلد… لذا، هناك طرق أخرى تضمن الدعم السياسي مثل شطب الفوائد الإضافية، التمييز بين ودائع مؤهلة وغير مؤهلة، إعادة تحويل الودائع إلى عملتها الأصلية، تحويل بعض الودائع إلى ملكية في أصول الدولة…». عملياً، هذا الكلام يعني إبقاء الهيركات مقنّعاً لفترة طويلة من الزمن.
إذاً، رهان السلطة هو على استدامة التكيّف. وهذا يظهر في ما ينقله الصندوق عن المسار الوحيد الآخر المتاح، أي البقاء ضمن المسار الذي رسمته قوى السلطة على يد حاكم مصرف لبنان والذي يفرض التكيّف على الجميع والذي بجزء منه بات مقبولاً، ولا سيما صغار المودعين. فهذا يعني أن لبنان على مفترق طرق، وأن نتائج هذا المسار غير متوقعة وغير مضمونة.
البقاء في الوضع القائم يعني انهياراً أكبر في سعر الصرف يغذّي المزيد من التضخّم
فالدولرة النقدية ستزيد، وسنشهد انهياراً أكبر في سعر الصرف يغذّي المزيد من التضخّم، والنشاط الاقتصادي سيصبح أكثر فأكثر غير شرعي ما ينتج تعقيدات أكبر في الإيرادات الحكومية، وهجرة الكفاءات ستزيد. أما مصرف لبنان فسيكون مثقلاً بالخسائر وبنقص في المصداقية والاحتياطات بالعملة الأجنبية. الاستثمارات الوافدة ستكون مرتبطة بالعقارات وصيانة الأملاك، هيركات أكبر على الودائع الصغيرة من دون أي وصول للودائع المتوسطة والكبيرة. الخسائر تنحسر في القطاع المالي لكنها تصيب أكثر الودائع الصغيرة، وهشاشة مرتفعة تجاه الخارج ودين عام غير مستدام.
باختصار، يقول الصندوق للبنانيين أن يختاروا بين القبول بعملية التكيّف الجارية بقيادة قوى السلطة بكل ما تحمله من نتائج وخيمة، أو الانخراط في مشروع الخضوع للصندوق الذي لن يوفّرهم لجهة تعزيز تفضيل القطاع المصرفي وربحيّته عليهم، ولن يمنحهم المزيد من الأجور، ولن يقدّم أي تغيير في بنية النموذج المعتمد على الخدمات بشكل أساسي، وسيقلص من عطاءات التقديمات الاجتماعية… لكن نتائج هذا الخضوع مضمونة.
الأصول والالتزامات الخارجية: مسار العجز
تشير تقديرات فريق صندوق النقد الدولي، إلى أن وضعية الاستثمار الدولي (IIP) للبنان، والمكوّنة من الآتي: (الذهب، صافي الديون والالتزامات، صافي محفظة الأصول، الاحتياطات بالعملة الأجنبية، صافي الاستثمارات الوافدة والخارجة)، تسجّل عجزاً بنحو 72 مليار دولار أو ما يوازي %350 من الناتج المحلي في عام 2021. كانت الوضعية صفراً في عام 2010، إلا أنها تدهورت باستمرار مذاك لتبلغ في عام 2017 نحو 54 مليار دولار، أو 101% من الناتج المحلي.
بحسب الصندوق، يعاني لبنان من درجة عالية جداً من المديونية، إذ إن إجمالي الالتزامات المترتبة عليه للخارج (كل الالتزامات الرسمية والخاصة) تبلغ 150 مليار دولار، أو 730% من الناتج المحلي، علماً أن أكثر من ثلاثة أرباع إجمالي الدين الخارجي (392% من الناتج المحلي الإجمالي) تعود لالتزامات مترتبة على القطاع المصرفي، ونحو 20% منها على القطاع العام. كما أنه في السنوات الأخيرة انخفضت الأصول الأجنبية بشكل كبير بسبب الانخفاض الحادّ في احتياطات العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي اللبناني. (يقدّر إجمالي الأصول بنحو 77 مليار دولار، أو 378% من الناتج المحلي الإجمالي).
سيولة الدولار لا تكفي بكل المعايير
في ذروتها، بلغت قيمة الاحتياطات بالعملة الأجنبية (السيولة بالدولار التي يملكها مصرف لبنان والقابلة للاستعمال) نحو 36.8 مليار دولار (69% من الناتج المحلي الإجمالي) في تشرين الثاني 2017، إلا أنها انخفضت إلى 10.4 مليارات دولار في كانون الأول 2022 (ما يوازي 44% من الناتج)، أو ما يعادل 6.3 أشهر من قيمة الاستيراد المتوقّعة في عام 2023. أما احتياطات الذهب فهي تبلغ نحو 15 مليار دولار، واستخدامها يتطلب موافقة البرلمان.
تدني الاحتياطات بالعملة الأجنبية على مدى السنوات الماضية يعكس جهود مصرف لبنان في دعم وتثبيت سعر الصرف لاستيعاب الأزمة، وهو أطلق بذلك عملية هروب الودائع ورؤوس الأموال إلى الخارج. ثم انتقل إلى تعدّدية أسعار الصرف – بما في ذلك الأسعار الرسمية المختلفة، وعدة مرافق مؤقتة أنشأها المصرف المركزي للمعاملات بأسعار صرف أقل، بالإضافة إلى منصة صيرفة وأسعار الصرف الموازية. وفق حسابات الصندوق التقنية المتعلقة بالمستوى الكافي من هذه الاحتياطات، فإنها توازي 37% على مقياس «تقييم كفاية الاحتياطات» لأنظمة أسعار الصرف العائمة، وهو أدنى من المستوى الموصى به الذي يُراوح بين 100% و150%. وهذه الاحتياطات هي أيضاً أقلّ من 100% من متطلبات السيولة الأجنبية للمصارف.
المودعون تقبّلوا الخسارة
أجرى صندوق النقد تحليلاً لكلفة تأخير «الإصلاحات» على الودائع، وقال إنه في آذار 2020 يوم أعلنت الدولة توقفها عن السداد، كان معدل الاسترداد للودائع مقدّراً بنحو 60%، ثم انخفض في كانون الثاني 2023 إلى 41%. وفي سياق هذا التحليل، يبدو أن العديد من المودعين تقبّلوا خسارتهم بسبب محدودية وصولهم إلى هذه الودائع إلا بأسعار صرف غير مشجّعة.
انقر على الجدول لتكبيره
الكلفة التي ترتّبت عليهم زادت بمبلغ 10 مليارات دولار، وباتت بسبب تأجيل إعادة الهيكلة، مشيراً إلى أن هذه الخسارة الإضافية تصيب أصحاب الودائع المتوسطة والكبيرة بافتراض أن الودائع الصغيرة محميّة بالكامل. احتساب الخسائر مبنيّ على أساس أنه نظرياً، لدى لبنان أصول بالعملة الأجنبية، أو موارد بالعملة الأجنبية، لتغطية هذه الوادائع، وكلّما انخفضت هذه الودائع انخفضت قيمة الاسترداد المتوقعة. المصادر الأساسية لهذه الموارد تدنّت عما كانت عليه في آذار 2020، إذ إنها تتكوّن ممّا يحمله مصرف لبنان من ذهب وودائع بالعملة الأجنبية، إلى جانب صافي ما تملكه المصارف في الخارج، وسيولتهم بالعملة الأجنبية في الخارج. ففي 2017، كان لدى القطاع المالي ما يكفي لتغطية كل الودائع بالدولار، إنما مع الوقت ازدادت الفجوة. وبالتحديد، فإن مواصلة تمويل الاستيراد المدعوم، والنفقات الحكومية بأسعار صرف فضلى، إلى جانب تدخلات مصرف لبنان لتهدئة سعر الصرف، أدّت إلى انخفاض في مستوى استرداد الودائع.
كما أن ما أدى إلى زيادة الخسارة في معدل استرداد الوديعة، هو انتقال الثروة عبر السماح بتسديد القروض بسعر صرف متدنٍّ، فاستفادوا من الفروقات الكبيرة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق الموازية، وهو أمر ستتم تغطيته من معدلات استرداد الوديعة.
الحقّ على النازحين!
في التقييم الذي أجراه الصندوق على الإصلاحات المتوقعة من لبنان مقابل الاستمرار بالوضع القائم، قالت السلطات في لبنان بما معناه: «الحقّ على النازحين». فقد نقل الصندوق أنه تلقّى إشارة واضحة إلى الكلفة المترتّبة عن وجود أعداد كبيرة من النازحين يؤدّي إلى تفاقم الوضع ويضع عبئاً إضافياً على موارد محدودة للغاية، طالبين من الصندوق إجراء تقييم للأكلاف المرتبطة باستضافة عدد كبير من اللاجئين، والمساعد في حشد الدعم الدولي.
وبالفعل، أجرى الصندوق هذا التقييم، الذي خلص إلى أن معظم اللاجئين ليس لديهم الإقامة القانونية وغير قادرين على الحصول على الحقوق والخدمات الأساسية، وأن معظمهم يعملون في وظائف غير نظامية بكلفة منخفضة، وأن أجورهم متدنّية، وأمنهم الوظيفي ضئيل، إذ متوسط دخل الأسرة أقلّ من 2.5 دولار أميركي يومياً، (باستثناء المساعدات الإنسانية)، وأن هذه الأسر خفضت إنفاقها على الغذاء حتى بات ثلثاهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد أو المتوسط – ونصفهم غير قادرين على دفع الإيجار. أما متوسط ديون الأسرة، فهو يعادل أكثر من ستة أشهر من الإنفاق. والنساء لديهنّ محدوديّة للوصول إلى الصحة الإنجابية مثل منتجات الدورة الشهرية، بينما 40% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 أعوام و14 عاماً لا يلتحقون بالمدرسة بسبب كلفة النقل أو نقص المواد التعليمية أو ضغط العمل.
ورغم أن تأثير النازحين كان ملحوظاً وقدّره البنك الدولي بانخفاض النموّ بنسبة 2% خلال الفترة 2012-2014، وتصاعف معدلات البطالة إلى 20% في حينه، فضلاً عن الضغوط على البنية التحتية، إلا أن الصندوق أشار إلى أن المانحين زادوا مساعداتهم للبنان وأنفقوا أكثر من 12 مليار دولار أميركي في لبنان منذ 2013.