كتبت راجانا حمية في “الأخبار”:
منذ 70 عاماً، يجاور سكان شكا معمل «أترنيت لبنان». مذَّاك، يكاد كل يوم يشهد عزاء بين جيران المعمل المقفل منذ عام 1991، والذي لا تزال معدّاته وما تبقّى من بضائعه تنشر الموت في المنطقة. على الطريق الفاصل بين شكا والهري، تصطف ألواح وأنابيب الأترنيت المعرّضة لعوامل الطقس التي تفعل فعلها في نثر ذرّات الـ«إسبستوس» القاتل، المسبّب الأول للإصابة بمرض سرطان الرئة. المعمل المتروك لبث الموت في الجوار تركه أصحابه لـ«الدولة» التي لم تفعل شيئاً سوى تشكيل لجان وتعيين حراس قضائيين و«تلزيم» محكمة الإفلاس به.
32 عاماً، حصد خلالها الموت أرواح كثيرين، من دون أن يحرّك أحد ساكناً. وكلما مرّ الملف على أحد الوزراء المتعاقبين في وزارة البيئة، كانت النقاشات تنتهي بضرورة «تسفير المواد»، من دون أن تكون هناك أي خطة لذلك… أخيراً، اقترح وزير البيئة ناصر ياسين على خبير أسكتلندي (كُلّف بإجراء دراسة حول انتشار الـ«إسبستوس» في الهواء عقب انفجار المرفأ) أن يزور معمل «أترنيت لبنان» لإجراء دراسة مفصّلة، وشكّل لجنة خبراء زارت المعمل قبل أسبوعين لتقديم مقترحات إلى محكمة الإفلاس عبر تفكيك المواد الخطرة بطرق آمنة وعزلها ومعالجتها. وبحسب مستشار وزير البيئة المتخصّص في علم السموم، حسن دهيني، يجري العمل على عدد من المقترحات، من ضمنها إنشاء مطمر صحي لهذه المواد. لكنه يقرّ بأن الوصول إلى النهاية ليس سهلاً، فعدا المعايير الصارمة التي يجب اتخاذها، هناك كلفة كبيرة للعمل يقدّرها الوزير ياسين بـ«ملايين الدولارات، وهذا ليس سهلاً على الدولة، ويجري التفكير حالياً في طلب مساعدة من المنظمات الدولية».
بحسب مصادر وزارة البيئة، فإن أحد الخيارات الأقرب إلى المنطق «والأحسن والأرخص هو إنشاء المطمر الصحي، على أن يكون قريباً من المعمل». وعليه «يبدأ العمل بتغليف المعمل كاملاً والعمل على تفكيكه وتغليف المعدات بطرق تراعي الشروط الصحية والبيئية كي لا تتطاير ذرات الإسبستوس وتلوّث الهواء». ويُعمل اليوم على تقدير الكلفة، أضف إلى أن الخبير الأسكتلندي «أخذ عينات من الهواء لتقدير نسبة المواد الخطرة، على أن تقوم لجنة الخبراء بزيارة ثانية له قبل صدور التقرير النهائي».
تأسّس مصنع «أترنيت لبنان» في شكا عام 1952. حينها، كان معملاً «مثالياً»، يقول بيار أبي شاهين، رئيس هيئة حماية البيئة في شكا، فتهافت عليه الناس للعمل فيه «لأنه كان يدفع معاشات كبيرة ومهمّة». استمر العمل فيه بتلك اللهفة حتى عام 1956، عندما وصلت أصداء دراسات من أوروبا وأميركا تؤكد أن الـ«إسبستوس» الموجود في كل تفصيلٍ في المعمل (ألواح الأترنيت والأنابيب والجدران والسقف) يتسبب بالسرطان. على هذا الأساس، بدأ المالك ستيفن شدهيني ترتيب أوضاعه لاستعادة رأسماله قبل بيع المعمل عام 1982 لرجال أعمال لبنانيين. باعه بـ«البلاش» كي يتخلّص منه وغادر، فيما بقي المعمل ينشر الموت حوله حتى عام 1991، عندما بدأت شكاوى أهالي المنطقة من خطره «وانبثقت لجنة ضمّت ممثلين عن الشركات لإيجاد الحلول»، يتابع أبي شاهين، إلا أن شيئاً لم يحصل، حتى عام 2000، عندما أفلس مالكو المعمل، وعيّنت وزارة العدل حارساً قضائياً على المعمل. إلا أن الأخير الذي لم يتقاض جزءاً كبيراً من رواتبه، «باع معدات من المعمل تُقدّر بملايين الدولارات بـ180 ألف دولار لتحصيل حقوقه، من دون الالتزام بإجراءات السلامة العامة». واليوم، يخضع المعمل للجنة التفليسة تحت إشراف محكمة الإفلاس.
طوال تلك السنوات بقي المعمل مشرّعاً من دون تغليف وهذا، بحسب القانون، «جريمة»، يردف أبي شاهين، مشيراً بـ«الأدلة» إلى تسبب الـ«إسبستوس» بوفاة 36 من أصل 52 كانوا يعملون في المعمل، أي نحو الـ70% من عدد العاملين. وهذا ما يصنّفه دهيني، مستشار وزير البيئة، بـ«التعرض المهني»، حيث تكون الإصابة أكثر التصاقاً بمن يعملون بشكلٍ مباشر. وبسبب عدم إدراك الناس لخطورة المرض، كان ينتقل إلى أفراد عائلة العامل المصاب بسبب غياب إرشادات الوقاية. و«جريمة أخرى»، يتابع أبي شاهين، تسبب بها أصحاب المعمل، إذ لم تكن هناك أيّ مراعاة لشروط العمل الصحية، فكان الموظفون يعملون بثيابهم العادية من دون إجراءات وقائية «ويذهبون إلى بيوتهم بثيابهم تلك، آخذين معهم الغبار، ما أدى إلى إصابة الكثير من عائلات العاملين، ومعظمهم صغار في السن، بالسرطان».
الموت «شغّال» هناك، وفي كل يوم ثمة من يُقتل بسرطان «ميزوثليوما» الذي يصيب غشاء الرئة، بحيث يصل المصاب به إلى مرحلة الموت اختناقاً. وبحسب دهيني، خطورة هذا المرض أنه «يمكن أن ينتقل من غشاء الرئة إلى أغشية القلب».