كتبت النهار
بدا مثيراً للإعجاب أخيراً، في ما لم يتوقف أمامه كثيرون، أن تتولى إيطاليا واليونيسكو مشروعاً مشتركاً لإعادة ترميم محطة مار مخايل “التاريخية” للقطار في لبنان الذي يستحيل أن تعثر فيه على بقايا سكة حديد كانت قائمة في الغابر من الزمن الجميل. بدا “الطليان”، وهم أصحاب أفضال كبيرة جداً على لبنان أسوة بالفرنسيين، كأنهم يستقون “نهج الرحابنة” في تلك “المحطة” الأيقونية لفيروز دافعين باللبنانيين الى الإيمان بقيامة ما لبلدهم فقرّروا إعادة إحياء المحطة لعلها تستدرج شبكة قطارات!
على هذا النحو “الرمزي” الرومانسي الخارج عن أطر السياسات المتوحشة يودّ كثر من اللبنانيين أن يصدقوا أن ثمة من يتلهف عليهم أكثر من أنفسهم. ومع ذلك لا ترانا قادرين على الاستغراق طويلاً في رومانسية مماثلة حين نرى فصول مبادرات تلو الأخرى ووساطات تلو الأخرى تتساقط تباعاً على غرار المبادرة الفرنسية التي كان ينقصها الآن ابتداع “محطة” ما فكان “وعد أيلول” لجان إيف لودريان بإطار مبتكر لـ”حوار” سريع رشيق هذه المرة على أمل أن يفضي الى تليين قنوات المعطلين وأصحاب الرؤوس المتحجّرة لعل وعسى ينتخب رئيس للبنان قبل إحياء ذكرى سنة كاملة على الفراغ الحاصل. وإذ يتفنن غلاة “الخبراء” الاستراتجيين عندنا، في توصيف وتحليل وتشريح تطور الدور الفرنسي على أساس أنه مُني بسقطة الفصل الأول وعاد ملتحفاً بالبيان الخماسي وناطقاً باسم الخماسية بدل فرنسا نفسها، تقف دورة الأزمة هنا حتى أيلول وأغلب الظن الى “ما بعد بعد أيلول” ما دامت شبهة الاستفادة من الفراغ وتوظيف الفراغ والاستثمار في الفراغ في اتجاهات مختلفة تصيب “القيادات” اللبنانية في المقام الأول.
هي شبهة تتسع يوماً بعد يوم ما دامت أزمة بحجم استباحة حاكمية مصرف لبنان للفراغ الإضافي الأخطر من فراغ الرئاسة تركت تفتك باللبنانيين وسط عوامل عجز أو تواطؤ أو معاندة حالت جميعها دون بلوغ انفجار أخطر متاهات الانهيار المهرول سريعاً في الآتي من الأيام. وهي شبهة لم يعد ممكناً تجاهل عدواها الآخذة في التفشي سواء في الارتباطات الخارجية المشبوهة للقوى المعطلة المرتبطة بمحور “الممانعة”، أو بالقصور عن تجاوز حالة “التقاطع” على مرشح الى فرض ميزان قوى سياسي جدي حقيقي لجبهة سيادية متماسكة مانعة للعبث الانقلابي من جانب المعارضين.
لن نغرق طويلاً في الدوافع والأسباب التي أودت بالدور الفرنسي الى أن يصبح ملتحقاً بالمجموعة الخماسية بعدما كان “سيّدها الأحادي” في لبنان طوال شهور إذ يغدو ذلك بمثابة هدية للقوى السياسية لمنحها مزيداً من التبريرات وكأن ثمة تسليماً مطلقاً بأن لا مخرج من الأزمة إلا عبر قنوات الوساطات الخارجية. ثم إن مهزلة المهازل التي برزت أخيراً تتمثل في “استفاقة” رأس حربة المعطلين أي “حزب الله” على إدانة التدخلات الخارجية بعدما سقط رهانه على الوساطة الفرنسية “الراحلة” التي انحازت إليه على نحو “انتحاري”. ومع ذلك لن يجدي نفعاً تجاهل خطورة انتقال عدوى المماطلة وانتظار “المحطات” من الداخل اللبناني الى الخارج الدولي بدل العكس المرجوّ والمطلوب. ما يجري من انتقال الوساطات من فرنسية الى خماسية ومن ثم لا ندري أي صفة ستأتي لاحقاً يعكس إصابة الطبيب بعدوى المريض بدل علاجه. ولا أحد مستعجلاً ما دام صيفنا اللاهب الهازج بالفقاعة السياحية العابرة يطمس أعتى الانهيارات ويحجب أخطر الفراغات!