كتبت النهار
لا يحتاج اللبنانيون المنهكون بضغط تراكم الذاكرة الى حدود الانفجار للعودة الى أرشيف طويل تاريخي من انفجارات “حروب الآخرين” على أرضهم منذ عام 1975 وتباعاً وحتى الساعة لإثبات المثبت في واقع استباحة خارجية متقلبة على أرضهم، كان آخرها المواجهات الدامية الأخيرة في أكبر المخيمات الفلسطينية في عين الحلوة. وربما لو جنحنا بعيداً في جنون الارتياب لظننا أن افتعال تلك الموقعة الدموية بين الفصائل الفلسطينية التقليدية والإسلامية وما إليها في “غابة” المخيم قد تهدف، في ما تهدف إليه في الباطن، الى طمس أخطر كلام قاله مرجع لبناني ديني أو مدني هو البطريرك الماروني الأحد الماضي عن “احتلال النازحين السوريين للبنان بغطاء دولي”. لم يرفّ جفن أحد بعد ضرب جرس الإنذار ذاك ولم يكن في جعبة أحد أن يلاقي البطريرك الراعي في كلام بهذه الجسامة، مسؤولاً كان أو مرجعاً مدنياً سياسياً أو مرجعاً دينياً آخر ينبغي ألا تفرقه تعددية دينية عن موقف مماثل من خطر بهذا الحجم الوجودي.
وماذا يرتّب “تذكير” دموي بين اللاجئين الفلسطينيين وفصائلهم في المخيمات سوى رعب سيناريو انفجار مماثل يوماً بين النازحين السوريين على خلفية الحرب الأهلية في سوريا أو بين النازحين وأهل الأرض اللبنانية المضيافة الأكثر إغداقاً في الكرم الحاتمي على النازحين في العالم؟
استذكر البارحة كثيرون ما يُسمّى “مقررات الحوار الوطني” التي صدرت عام 2006 بعدما أجريت جولاتها في مجلس النواب ومن أبرز بنودها نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وتنظيمه داخل المخيمات، ذاك البند الذي على غرابته والأشبه باتفاق القاهرة الشهير نفسه، التحق بسواه من مئات القرارات والمقررات الداخلية والأممية والخارجية الهائمة بلا تنفيذ والمتصلة بفرض السيادة الخالصة للدولة اللبنانية على أرض لبنان. وما دام الشيء بالشيء يذكر، لا ترانا في حاجة الى لفت الأنظار الى أن أجيالاً جديدة صارت في عمر الشباب الآن نمت وترعرعت منذ عام 2006 كما هاجر معظمها الى سائر أصقاع الانتشار اللبناني في العالم، كما أن أجيالاً شابة من الفلسطينيين هربت وتهرب من جحيم واقع المخيمات، فيما يبقى من ينشد تنفيذ قرارات هرمة مهترئة لأن المسماة دولة لم تقم بعد في لبنان رغم الهيكليات الفارغة التي تدير بلاد الأرز.
ولن نفوّت الفرصة للتذكير بأن التشدّق بالحوار في شؤون الأزمات الداخلية المصيرية كالجاري منذ التسبّب بالفراغ الرئاسي لا يختلف إطلاقاً في نزعته “التكاذبية” المخادعة عن مصير حوارات سابقة وتفاهمات واتفاقات فرضت إيقاعاتها بقوة موازين قوى قسرية وظلت حبراً على ورق لأن إرادة الأقوى ظلت أقوى ولأن الارتباطات الخارجية لا تزال حتى الساعة وستبقى الى أمد غير مرئيّ تتحكم بلبنان وتمنع قيام “دولته” السيدة الأحادية السلطة.
قد لا يوافق كثيرون على أي مقاربة للحوار من باب مقارنة بين أزمة تتصل بالنازحين أو اللاجئين وأزمة الفراغ الرئاسي أو سواها من الأزمات السياسية الداخلية. ولكن هل من “عيّنة” نموذجية تنفي المقارنة ما دمنا نرى في مشهد التفرج على عين الحلوة ذاك العجز المخزي المفجع لدولة تحصي الإصابات ولا دخل ولا قدرة لها على أي تأثير وساسة وقوى وأحزاب وشخصيات لا يملكون سوى التسابق على إتحافنا بالمبادئ السامية وهم أعجز من الدولة؟
وأما تلك الحوارات المضحكة فلا ترانا ملزمين بعناء تظهير تاريخها وحاضرها لإثبات المثبت في عقمها!