كتبت النهار
منذ سنوات غير كثيرة بدأت الثقة تهتز بين الولايات المتحدة زعيمة العالم في حينه وحتى الآن على الأقل وحلفائها في العالم ولا سيما الذين يعتمدون على حمايتها العسكرية الدائمة ولكن من دون أن يستعدّوا هم للدفاع عن بلدانهم. كانت الولايات المتحدة في حينه قادرة على ممارسة هذا الترف والدلال بل الغنج من قبل الحلفاء لأسباب عدّة. منها أن تحدّي المنافسين لها من الدول الكبرى والمعادين لها منهم وفي مقدمهم روسيا والصين الشعبية لم يكن كبيراً نظراً الى الفرق الشاسع أو على الأقل الكبير في القوة العسكرية والتقدم التكنولوجي وتطوّر الأسلحة كما التقدم الاقتصادي والنفوذ الدولي الواسع. منها أيضاً أن تكوكب الحلفاء الدوليين الكبار حولها في أوروبا وآسيا غير العربية كما آسيا العربية ونجاح إسرائيل قاعدتها العسكرية المتقدمة في الشرق الأوسط في “ضبط” الدول المعادية لها أو التي تفكّر في أن تصبح كذلك، أن تكوكبهم حولها جعلها تشعر بالقوة المفرطة والمناعة الكبيرة والقدرة على مواجهة أي تحدٍّ في العالم. لكن الولايات المتحدة رغم استمرارها الأولى وإن بين غير متساوين على الساحة الدولية بدأت تشعر بأن حلفاءها ولا سيما الذين وفّرت لهم الحماية المعنوية والاقتصادية والعسكرية عند الحاجة بدأوا يغرّدون خارج سربها وإن بنسب غير متساوية.
أسباب الاهتزاز كثيرة منها شعور الولايات المتحدة بأن تحدّي روسيا لها في عصر بوتين المستمر منذ عشرين سنة على الأقل بدأ يشكّل خطراً عليها وإن بنسبة غير مرتفعة في البداية. وهو الآن في أشدّ مراحله خطورةً بعدما شنّ جيشه حرباً على أوكرانيا في شباط 2022 غير ناجحة حتى الآن في إلحاق الهزيمة بها. ولكن ناجحة في وضع العالم لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أمام تهديد جدّي وخطير هو استعمال السلاح النووي إذا وجدت روسيا أنه الطريقة الوحيدة لتلافي هزيمة كبيرة لا بد أن تؤثّر على الداخل المتنوّع فيها، كما لا بد أن تثير شهيّة حلفائها أو أصدقائها الكبار وفي مقدمهم الصين لإستغلال الفرصة و”مدّ أيديهم” الى جغرافيتها وثرواتها البالغة الضخامة. من الأسباب أيضاً بروز خطر الصين بأجلى مظاهره من خلال أمرين. الأول تنفيذها خطة اقتصادية – عسكرية – إعمارية للسيطرة على بحر الصين الجنوبي كما على الدول الواقعة في محيطها ومعظمها حليف لواشنطن. والثاني هو انطلاقها في تنفيذ عملية توسيع لنفوذها في العالم (أفريقيا – الشرق الأوسط – أوروبا ومناطق أخرى) بواسطة المساعدات الاقتصادية والمشاريع المشتركة وبناء مرافق مهمة مثل الموانئ البحرية والجوية وسكك الحديد والطرق السريعة وتمويل المشروعات الكبيرة.
ماذا فعلت وتفعل وستفعل الولايات المتحدة لمواجهة التحديات المشار إليها أعلاه والقضاء عليها، ولا سيما بعدما بدأ حلفاؤها وخصوصاً الذين تعتمد على نفطهم وغازهم ينوّعون صداقاتهم وتعاونهم وحتى تحالفاتهم الدولية بحيث صارت تشمل أصدقاء لها وحلفاء وكذلك أعداء، اقتناعاً منهم بضرورة حماية بلدانهم وأنظمتهم بعدما لمسوا أن الاهتمام الأميركي في مواجهة التمدّد الصيني قد يكون على حسابهم أي بالتخلي عنهم وتركهم لمصير مجهول أو بالأحرى لقمة سائغة لأعدائهم؟ يجيب ديبلوماسي أميركي سابق مهم بالقول إن على بلاده أن لا تستمر في اعتبار الدول التي يُهدّد تصرّفها جدّياً المصالح الوطنية للولايات المتحدة خشية أن تخسرهم. وعليها أن لا تستمر في إعتماد سياسة تهدئة هذه الدول وأحياناً منحها مكافآت خشية فقدانها، وأن تدفع هؤلاء الى القلق من جرّاء تصرّفاتهم من فقدان صفة الحليف لأميركا.
هذا أمرٌ مارسته أميركا في السنوات القليلة الماضية رغم تهديد الدول الملمح إليها مصالحها. فالمملكة العربية السعودية نشرت في العالم خلال مدة طويلة (توقّفت حديثاً عن ذلك) إيديولوجيا دينية عنيفة كانت مسؤولة عن إرهاب 11 أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن.
وهي عملت مع روسيا لرفع أسعار النفط خلال جهد قوي كبير كانت تبذله أميركا لتقليص مداخيلها من النفط. ونحن أي أميركا رفعنا إسرائيل الى مرتبة الحليف الأكبر من أي حليف آخر.
لكن ذلك لم يجعلها تشعر بواجب مساعدة أميركا بإرسال قوات عسكرية للقتال الى جانبها. علماً بأن هذا أمرٌ فعلته السعودية. كما أن موقفها من حرب أوكرانيا متناقض بل متأرجح. وهي تتحدّى أميركا بجعل الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر سوءاً. وتركيا هي ربما المثل الأكثر نصاعةً للحليف المُدمِّر وخصوصاً في مرحلة حكم أردوغان المستمرة منذ نحو عقدين.
ففي سوريا لم تكتفِ بدعم المجموعات الجهادية وممارساتها الوحشية بل هاجمت القوات الكردية التي تقاتل مع أميركا في سوريا. وهي تهدّد باستمرار اليونان وسوريا وتطمح الى السيطرة على الموصل الغنية بالنفط لأنها “تركية” أصلاً في رأيها. وأنقرة هذه كسرت تفاهمات حلف شمال الأطلسي يوم اشترت أسلحة من روسيا. وهي دعت ولا تزال تدعو الى تقسيم قبرص. وترفض الاشتراك في فرض العقوبات الأميركية والأوروبية وعقوبات حلف شمال الأطلسي وهي عضو فيه على روسيا. رغم ذلك لا تزال واشنطن تعتقد أن أردوغان سيُنقض “الأطلسي” علماً بأن تصرفات أنقرة يمكن أن تتسبب بحرب مع اليونان والاثنتان عضوان في الحلف المذكور.