فؤاد بزي – الاخبار
في «معسكر» السفارة الأميركيّة الجديد في بيروت، أو ما يُعرف بـ«قاعدة عوكر»، ظلم، وسوء معاملة، واستغلال، وطرد تعسّفي، وعدم اعتراف بإصابات العمل لمئات العمال اللبنانيين والأجانب. في مشروع بناء أكبر مبنى سفارة في المنطقة، عمّال ينزفون جرّاء إصابات العمل لساعات قبل نقلهم للعلاج، ويعملون أكثر من 10 ساعات يومياً بأجور زهيدة، وتحت التهديد بالصّرف، علماً أنّ سفيرة «الحرّيات الأميركيّة» في لبنان دوروثي شيا، لا تترك مناسبةً إلّا وتذكّرنا بـ«دعم بلادها لحقوق اللبنانيين»، مستخدمةً شعارها السمج in this together.
في سفارة دولة القهر، صاحبة الحملات الحقوقيّة على الصين وكوريا الشمالية وكوبا وسوريا، والمطالبة بالحرّيات، 2000 عامل بينهم 1200 لبناني، أغلبيتهم من مناطق الشمال، يؤكل تعبهم، ويعملون في أسوأ ظروف العمل على الأراضي اللبنانية لبناء «المبنى الأسود» الجديد للسفارة الأميركيّة في عوكر. بين شباط وأيار الماضيين، صرف المتعهد اللبناني «مان إنتربرايز» 600 عامل لبناني منهم بـ«الغش والتلاعب والاحتيال، إذ أنهى عقود العمال، ودفعهم للتوقيع على براءات ذمّة لشركته، بعد الإيحاء لهم بأنّه سينقلهم إلى مقر الشركة في السعوديّة، أو إدخالهم في الشركة الأمّ الأميركيّة صاحبة المشروع، «هاربرت» (Harbert).
بـ«غوانتانامو»، يصف رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين كاسترو عبدالله السّفارة الأميركيّة. «الشركة اللبنانيّة صاحبة التعهد بتنفيذ المعسكر الأميركي في عوكر تدفع العمّال للعمل أكثر من 11 ساعة يومياً، ولا تدفع لهم بدل السّاعات الإضافية، بل تحسم من ساعات عملهم الوقت الذي يقضيه العامل في الحمّام، أو أداء الصلاة، ما يؤدّي إلى سرقة معاش شهرين ونصف شهر كلّ سنة عمل». ولا يقف هضم الحقوق عند هذا الحدّ، بل «تأكل الشركة من حقوق العمّال منح التعليم، ولا تسجّل أغلبيتهم في الضمان الاجتماعي، والأقليّة المسجّلة برواتب ضئيلة».
الظلم اللاحق بالعمال المصروفين دفعهم إلى التظاهر أمام مقرّ الشركة في الأشرفية أمس، إلا أنّ هذه التحرّكات لم تمرّ مرور الكرام، إذ «هدّد جنود الربّ المتظاهرين بتكسير أرجلهم في حال دخولهم منطقة الأشرفية، ما دفع المنظّمين للتواصل مع القوى الأمنيّة التي حضرت بشكل كبير لحمايتهم»، وذكرت مصادر لـ«الأخبار» أنّ أصحاب الشركة المتعهّدة «مان إنتربرايز» من داعمي «جنود الرّب».
حاولت «الأخبار» التواصل مع الشركة عبر مسؤولة الموارد البشرية فيها، التي أفادت بـ«أن لا مشكلة نهائياً للشركة مع العمال، بل هم من لديهم مشاكل خاصة»، قبل أن تتذرّع بـ«ضغط العمل» لإنهاء الاتصال، ولم تستجب الشركة لمحاولات «الأخبار» التواصل معها عبر أرقامها الرسميّة.
من الناحية القانونية، تقدّمت ««نقابة عمال البناء ومشتقاتها في بيروت وجبل لبنان» بشكوى لدى وزارة العمل، لأنّ كتاب الصرف مخالف لقانون العمل»، بحسب عبدالله، «ولا سيّما أن حجّة الشركة هي الظروف الاقتصادية التي لا يمكن البناء عليها للصرف، بل للتشاور مع وزارة العمل لتحديد القدرة على الصرف من عدمها». وحول المسار القانوني للشكوى، أشار إلى «أنّ الوزارة عقدت 3 جلسات للاستماع لإفادة الشّركة التي لم يحضر محاميها سوى اليوم، ومتأخراً لساعةٍ كاملةٍ متحجّجاً بالنسيان، ما أدّى إلى تأجيل الجلسة إلى الأسبوع المقبل».
هذا التأخير يعني، بحسب عبدالله، «تأجيلاً لكسب الوقت، ولا سيّما أنّ الشركة طلبت مهلة 3 أسابيع لتأمين لوائح بالعمال وأجورهم، وأرقامهم في الضمان الاجتماعي، والساعات الإضافيّة المنفّذة، في حين يمكن سحب هذه المعلومات بكبسة زر». ويشير عبدالله إلى ممارسة الشركة للاحتيال، إذ «قامت بإدراج العمال في الضمان الاجتماعي بعد تسجيل الشكوى بحقها، وأرغمتهم على توقيع براءات ذمّة، وتتصل بهم للضغط عليهم لسحب الشكوى مقابل إعادتهم إلى العمل، ولكنّها تدفع معاش شهر واحد لهم، ولا تعيد تشغيلهم».
من جهتها اتخذت وزارة العمل قراراً بـ«تنظيم محضر ضبط» لمخالفة مبدأ التشاور، وأفاد وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم بـ«أنّه علم بسوء معاملة إحدى الشركات العاملة في السفارة الأميركيّة للعمال اللبنانيين»، فقام بـ«إيقاف أحد ملفات التوظيف الخاصة بالشركات العاملة في السّفارة ريثما يأتي مندوب الشركة لسؤاله عن حقوق العمال». وأشار بيرم إلى «عدم وصول الشكوى حتى اللحظة إلى مكتب الوزير، ما دفعه للاكتفاء بالإجراء الأول».
عبد الرحمن الرفاعي ممنوع من العلاج
لم ينتظر المسؤول عن العمّال ساعات لـ«صبّ الباطون»، بل أجبر العمال المرهَقين على العمل إلى ما بعد انتهاء الدوام، وإلّا الصرف. عبد الرحمن الرفاعي، ابن بلدة القرقف في عكار، عمل في بناء السفارة الأميركيّة لسنة قبل الإصابة التي طرحته أرضاً، ودفعته إلى العيش على المساعدات الأمميّة، وبطاقة الشؤون الاجتماعية، ومساعدات الخيّرين. الرفاعي كان يخرج يومياً من منزله السّاعة الثالثة فجراً، ليعمل 11 ساعة في عوكر، ويعود عند منتصف الليل، لم يرَ في هذه السنة زوجته وولديه سوى نائمين.
وقف ثمانية عمال على السّقالات لإنهاء العمل خوفاً من الصّرف، بينهم الرفاعي، وبدأت أعمال صب الباطون التي لا تنتظر اليوم التالي. وخلال العمل، وبعد استخدام «الرجراج» لرصّ الباطون، فُسخ الجدار إلى جزءَين، ووقع الرفاعي بينهما، قبل أن يبدأ جزءا الجدار بالضغط على رجليه. «شعرت بعظامي تتكسّر، وسمعت قرقعتها» يقول الرفاعي. وبعد أن تمكّن رفاقه من سحبه، بقي ينزف لحوالي سّاعة قبل أن يسمح حراس السفارة بدخول سيّارة الإسعاف لنقله.
في المستشفى، لم يُعالج الرفاعي، بل أجريت له فقط صور شعاعية، ورغم إصابته البليغة طلبت منه إدارة مستشفى أبو جودة المغادرة، من دون تأمين إسعاف حتى، ما دفع رفاقه لنقله في باص نقلِ ركاب إلى منزله في عكار، ومعها بدأت رحلة المعاناة. تنقّل الرفاعي من طبيب إلى آخر من دون أن يتمكّن سوى من «إثبات تقاضي بعض الأطباء للرشى من الشركة المشغّلة، إلى حدّ كتابة طبيب لتقرير قال فيه إنّه مصاب بالديسك منذ مدّة طويلة، لتبرير الكسور في فقرات ظهره، وإرسال أشخاص للتهجّم عليه في عيادات الأطباء لتخويفه ودفعه للبقاء في منزله».
وفي النهاية توجّه الرفاعي نحو طبيب شرعي لإثبات إصابته بغية الحصول على تعويض من الشركة المشغّلة، فأفاده الأخير بـ«اتصال الشركة به قبل حضوره إلى العيادة، وإبلاغه بأنّ الرفاعي يتمارض، وجلّ ما يعاني منه هو كسر في الحوض».
في المحصّلة، «لا عمل، ولا تعويض عطل وضرر، والأولاد خارج المدرسة»، يقول الرفاعي. وبعد رفع دعوى على الشركة، «تواصل قسم شؤون الموظفين معي لسحب الدعوى مقابل تحويل معاش شهر واحد».